تُعيد الأخبار المتواترة عن اتفاق مزعوم بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان لإبعاد ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحزب العمال الكردستاني (PKK) إلى جنوب الحدود نحو الرقة ودير الزور إلى الأذهان مأساة عام 2014، عندما تحولت المدينة من رمز للحرية إلى مركز للإرهاب والدمار.
ففي عام 2013، كانت الرقة أول مركز مدينة يحرر من قبضة نظام الأسد، واستبشر أهلها خيرًا بمستقبل من الحرية والكرامة. لكن سرعان ما تحولت الآمال إلى كوابيس بعد أن قُدمت المدينة على طبق من ذهب لتنظيم داعش الإرهابي. دخل التنظيم المدينة ليمارس أفظع الجرائم من قتل وتهجير وتمثيل بالجثث. لم يكتفِ داعش بذلك، بل جعل من الرقة عاصمةً لإرهابه، مُصدِّرًا للعالم صورة مظلمة عن مدينة عريقة تعود حضارتها إلى أكثر من 4500 عام.
السيناريو الجديد: قسد وحزب العمال الكردستاني
بعد دمار المدينة وطرد تنظيم داعش عام 2017، سيطرت قوات قسد، التي يُنظر إليها كامتداد لحزب العمال الكردستاني، على الرقة. مارست هذه القوات على مدار أكثر من سبع سنوات سياسةً وُصفت بالعنصرية، وتضمنت عمليات اعتقال تعسفية، فرض الضرائب الباهظة، وتكميم الأفواه. ومع ذلك، استطاع أهل الرقة إعادة إحياء مدينتهم بصبرهم وإصرارهم، رغم كل محاولات التهميش والقمع.
اليوم، يعود الحديث عن إعادة تموضع هذه القوات في الرقة ودير الزور نتيجة التفاهمات السياسية الدولية. هذه الخطوة، إن تمّت، تثير مخاوف أهالي الرقة من تكرار سيناريو الخيانة الذي عاشوه سابقًا، حيث يُخشى أن تتحول المدينة مجددًا إلى ساحة للصراعات والتجاذبات الإقليمية والدولية.
الأبعاد الجغرافية والسياسية للاتفاق
إذا نظرنا إلى الأمر جغرافيًا، فإن إبعاد هذه الميليشيات نحو الرقة ودير الزور يعني تحميل هذه المناطق عبء صراع جديد قد يُعيدها إلى مربع الدمار والتشريد. تاريخيًا، عانت هذه المدن من كونها ساحة تنافس بين القوى الكبرى، وهي اليوم مهددة بأن تكون مرة أخرى ضحية لمصالح دولية لا تعير اهتمامًا لحياة المدنيين.
أما سياسيًا، فإن الاتفاق بين تركيا وأمريكا يهدف إلى تحقيق مصالحهما على حساب استقرار المنطقة. فتركيا تسعى لإبعاد قوات قسد وPKK عن حدودها الجنوبية، بينما ترى الولايات المتحدة في هذه الميليشيات ورقة ضغط يمكن اللعب بها لإعادة ترتيب خارطة النفوذ في سوريا.
بالنسبة لأهالي الرقة، فإن إعادة سيناريو 2014 هو أمر مرفوض تمامًا. فقد دفعوا أثمانًا باهظة للحروب والصراعات التي فرضت عليهم من الخارج، وهم اليوم يتطلعون للعيش في حرية وكرامة بعيدًا عن العنصرية والتدخلات الخارجية. أهل الرقة يريدون استعادة مدينتهم كمساحة للسلام، لا أن تكون مقرًا جديدًا لصراعات الآخرين.
على سلطة دمشق أن تدرك حقيقة واضحة: لن تكون هناك شرعية حقيقية للحكومة المركزية مادامت الرقة خارج سيطرتها، وما دامت تعتمد على تقديم مدن سوريا مجددًا لتنظيمات إرهابية أو ميليشيات مسلحة. إن أي خطوة لإعادة المدينة إلى قبضة قوى تدميرية، سواء كانت تنظيمات إرهابية أو ميليشيات قمعية، ستكون بمثابة إشعال فتيل ثورة جديدة لن تقتصر على الرقة فقط.
الرقة، التي دفعت ثمنًا غاليًا خلال السنوات الماضية، أصبحت رمزًا لمعاناة سوريا بأسرها. لا تزال المدينة تُعاني آثار التدمير والتهجير، في وقت ينتظر فيه أكثر من 200 ألف مهجّر من أهلها فرصة العودة إلى بيوتهم وأرضهم بكرامة وأمان. أولئك المهجّرون لن يصمتوا إذا ما حاولت سلطة دمشق أو غيرها تحويل مدينتهم مجددًا إلى ساحة للصراعات، أو تسليمها لتنظيمات إرهابية جديدة، كما حدث في الماضي مع تنظيم داعش.
إن أي حكومة تسعى لتحقيق الاستقرار في سوريا يجب أن تفهم أهمية الرقة كجزء أساسي من نسيج الوطن السوري. إعادة الرقة إلى سيطرة القوى المركزية لن تتحقق بالقمع أو الاتفاقات التي تتجاهل حقوق أهلها، بل بتحقيق العدالة، وضمان إدارة محلية تمثل سكانها، وتهيئة الظروف لعودة المهجرين الذين طال انتظارهم.