مضى عامان عندما شنَّ التحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة ضرباته على الرقّة بهدف القضاء على تنظيم داعش والذي وُضِع شمّاعة عُلِّقت عليها الحجج لشنّ الهجوم على الرقّة من أجل تغيير البُنية التحتيّة، وتغييره ديمغرافيّاً و ذلك باقتطاع الرقّة عن سوريا وتوطين قوميّة مكان أُخرى.
فهاهي الرقّة اليوم مدينة تغيّرت معالمها، فقد أُحيلت منازلها ركاماً يعصف غباره كلّما مرّت به ذكريات كانت مختبئة في زواياها، ومخازنها ومحالها المعروفة فعمرُها ونشأة الرقّة سيّان، فاليوم تبدّلت أسماؤها، وتغيّر صدى أصوات الباعة بتغيّر وجوههم، فهم اليوم وجوهٌ غريبة جاءت من مختلف المناطق التي تتعرّض لقصف طيران النظام وروسيا الموالية له.
يخبرنا أبو ياسر أحد أهالي الرقّة: ” إنّني أشعر بالغربة في الرقّة التي ترعرعت فيها، فقد تغيّر كلّ شيء فيها فالشوارع التي كانت في الماضي تأخذني إلى أُناسٍ أعزُّهم، وأماكن أفتفدها اليوم ولا أجد لها أثر”.
عامان على خروج التنظيم الذي لم يكن إجرامه بأقلّ ممّا فعله التحالف الدوليّ، فهو لم يخرج إلّا بعد أن قام بتوشيح الرقّة بالسواد ، ليس بسواد الثياب فحسب، بل سواد الأفكار المسمومة التي لا تزال مرتسمة في جهلٍ متفشٍّ في عقول أهلها الذين لك يكن لديهم من حيلةٍ إلّا بتقبّل هذا الفكر الداعشيّ خوفاً من السيف المسلّط على رقابهم في حال الرفض.
أفكارٌ لم تتوافق وشباب الرقّة الناشئ، الذي ما كان له إلّا اللّواذ بدرب الهجرة التي أخذت تتضاعف مع دخول ميليشيا قسد، والتي لم يسلم شبّان الرقّة منهم بعد زجّهم في حروبها مع التنظيم، بالإضافة إلى المعاملة الفظّة مع الأهالي، في محاولةٍ منها لطمس هويّتهم، وتاريخ تواجدهم في الرقّة.
بالإضافة ان ميليشيا قسد وبمرور عامين على دخولها الرقّة لم تحرك حجراً عن حجر، بل لا تزال متعمّدة على إبقاء الرقّة كومة حجارة لا تسمح لأهلها حتّى برفع حائطٍ واحد إلّا بدفع مبالغ ماليّة كبيرة، خاصّة أنّ هذه الميليشيات كانت لهم اليد الطُّولى في تدمير الرقّة، وهذا سبب رئيسي في ثني كثير من الأهالي عن التفكير بإعادة ترميم أو إعمار بيوتهم حتّى ولو على حسابهم الخاصّ.
وماهذه إلّا أفعال تنمّ عن حقد سلطة الأمر الواقع المسيطرة على الأرض اليوم من أجل طرد الأهالي من بيوتهم وعدم التفكير في العودة إليها، ولعلّ سياسة حرق الأراضي والمحاصيل الزراعيّة من قِبَل تلك السلطة هي دليل آخر على اتّباع سياسة التجويع وزيادة في عمليّة الطرد خاصّة أبناء الريف الذين لا يزالون متمسكين بأراضيهم، بيدَ أنّ اقتصاد الرقّة هو اقتصاد زراعيّ بحت.
هاهي الرقّة اليوم تتبدّل أيّامها بتغيّر وجوه القِوى المتلاحقة عليها على مدى الخمس سنوات الماضية منذ سيطرة تنظيم داعش عام 2014 وخروجه منها عامّ 2017 وسيطرة ميليشيا قسد المدعومة دوليّاً بقيادة أمريكا، وجوهٌ ولغات متعاقبة طيلة تلك السنوات جعل من الرقّة محافظةً مسلوبة الهويّة إلّا من هويّة الحريّة التي ستنتزعها مرّةً أُخرى رَغْماً عن أَنف الذين يعبرون بها.
الرقة تذبح بصمت
