المصدر : ساسة بوست
تخلصت العديد من المناطق السورية من سيطرة «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» عليها، لكن وحدات الحماية الكردية (PYD) التي حلّت مكان (داعش) في هذه المناطق بعد توقّف المعارك، لم تمنح المدنيين الكثير من الوقت لتنفّس الصعداء بعد التخلص من (داعش) ومن قبله النظام السوري؛ إذ سرعان ما عادت مظاهر القمع والانتهاكات إلى حياتهم اليوميّة على شكل اعتقال وتعذيب وفرض ضرائب، بالتزامن مع فقدان غالبية ضروريّات الحياة في الرقة ودير الزور والحسكة من مياه وكهرباء وبني تحتية، وحين تحرك مدنيّو هذ المناطق للاحتجاج على هذه الانتهاكات، قوبلت تحركاتهم بالقمع والاعتقال والتهديد.
الرحلة من الظلم إلى الظلم.. «قسد» مثل الأسد
اعتقلت «قسد» عمتي شعيلة المطر (65 سنة) وبناتها في الرقة، بعد الاعتداء عليهن بالضرب، نتنقل من ظلم لظلم بين سجون النظام السوري و(داعش) وقوات سوريا الديموقراطية (قسد)، في الرقة تتوسع السجون ويتغير وجه السجان في كل مرة مع ظالم جديد.
هذا ما كتبه الإعلامي والمخرج السوري عامر مطر على صفحته على «فيسبوك»، وكمشهد تكرر، حاولت شعيلة وبناتها منع دوريات قوات الأسايش (قوات الأمن الداخلي الكردية) منع اعتقال ابنها أنس الحمد الذي ضرب ضربًا مبرحًا على يد عناصر في «بلدية الشعب في مدينة الرقة» التابعة لـ(قسد)، وذلك على خلفية قرار البلدية هدم محله وبيته لرفضه دفع الضريبة الجديدة المفروضة علي من يعيد بناء منزله الذي هدم خلال المعركة مع (داعش).
وتفرض هذه البلدية رسومًا ماليةً كبيرةً على رخص البناء، وتهدم ـ«قسد» كل محل تجاري لا يحصل على رخصة للبناء، ويأتي ذلك في وقت عاد فيه أهالي لرقة ليجدوا مشاكل كثيرة بانتظارهم في ظل عجز الوحدات الكردية عن إدارة ملفات المدينة، فحتى عملية انتشال الجثث من تحت الأنقاض لم تتم حتى الآن، كما يعاني المدنيون في مناطق السيطرة الكردية من التجنيد الإجباري؛ إذ يعتقل العشرات تحت سن 48 عامًا في طريق عودتهم لتفقد ممتلكاتهم عند الحواجز تحت ذريعة الخدمة الإلزامية.
وفي ظل غياب الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء، يتواصل ارتكاب انتهاكات عدة تمارس على يد القوّات الكردية كالسرقة والقتل والخطف، وقمع الحريات ومصادرة الأراضي والممتلكات بحجج مختلفة، وهي الانتهاكات التي دفعت المدنيين خلال الأيام القليلة الماضية للخروج في تظاهرات في الرقة ودير الزور خاصة قادها مجموع من الناشطين.
ويرى المراقبون أن القمع الكردي، يأتي لتخوّف (قسد) من تنامي قوّة المكونات العربية في المناطق التي تسيطر عليها، فهي تحاول جاهدة الإبقاء عليهم في مخيمات الاحتجاز التي حوّلتها لسجون كبيرة للمدنيين الهاربين من الموت، وتصادر ممتلكاتهم، وهي تتوقع أن يمتد الحراك سابق الذكر إلى مخيمات النزوح، التي يطلق عليها اسم «مخيمات الموت»؛ إذ باتت تلك المخيمات كالقنبلة الموقوتة.
الموت أو الجنون.. مصير المعتقلين في سجون «قسد»
تحت التعذيب في سجون «قسد» قُتل المهندس فهد النايف، من أبناء مدينة صبيخان بريف دير الزور، وكذلك قتل الصيدلي صالح الياسين من أبناء بلدة الصبخة في سجن الجزرة، أما الشاب أحمد أبو مريم فقد أطلق سراحه، لكن بعد فقدانه لقواه العقلية نتيجة التعذيب.
هذه الحوادث التي شهدها يونيو (حزيران) الماضي، ما هي إلّا فيض من غيض مما يحدث في السجون والمعتقلات التي تنتشر في أماكن سيطرة الوحدات الكردية في دير الزور والرقة، وفي القامشلي والحسكة، فالتعذيب الممنهج الممارس بحق المعتقلين أدّى إلى وفاة العديد منهم داخل السجون، ومن خرج منهم فقد خرج مريضًا أو مرتبكًا في قواه العقلية، كما يمارس التعذيب النفسي الشديد والإهانات بحق المعتقلين العرب ويتعرّض هؤلاء لحملات اعتقال متواصلة تشنها (قسد) في المناطق الخاضعة لها بتهم الانتساب لـ(داعش) أو الجيش الحر، ويوضع مئات المعتقلين في سجون هي عبارة عن منازل، ويتولى مسئولية هذه السجون والأجهزة الأمنية الأكراد فقط، ولا يسمح بوجود أي عربي.
وينقل موقع «بلدي نيوز» السوري حكاية معتقل يدعى عبد الله سجن في أحد سجون الكردية، يقول: «أزالوا عن عيناي الرباط الأسود، ورأيت أكثر من 70 سجينًا في غرفة لا تتجاوز مساحتها الثلاث أمتار. يقدم السجانون رغيف خبز واحد للسجين كل 24 ساعة، مع حبة بطاطا مسلوقة أو أرز منقوع بالماء، أما الماء فهو ما يعاني منه المساجين؛ إذ إنّ السجّان البالغ من العمر 20 سنة فقط والملقب بعزرائيل، يجلب لنا الماء حسب مزاجه الخاص، بينما يقضي معظم يومه في تعذيب بعض المساجين».
ويضيف عبد الله: «أوضاع المساجين مزرية للغاية؛ فالجو حار والقمل والحشرات والأمراض الجلدية تلاحظها على أجساد المساجين، ورائحة السجن مقززة للغاية»، ويتابع عبد الله: «بعد نقلي لسجن تل أبيض، كنت أرتجف خوفًا؛ فقد سمعت مؤخرًا عن هذا السجن المخيف، الذي يشتهر سجانوه بحرق الأعضاء الذكرية للمعتقلين وتعليقها بكماشات حادة، والخنق بوضع كميات من القماش المبلل على رأس ووجه المسجون ليختنق ببطء.. كل أساليب التعذيب التي كنت قد سمعت عنها، تعرضت لها، أنا ومن كان معي في هذا السجن».
ولم تكتف الوحدات الكردية باعتقال المئات في سجونهم، بل سلمت بعض المعتقلين السياسيين إلى النظام السوري من مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة، وسبق أن سلّمت هذه الوحدات النظام السوري معتقلين مدنيين ومعارضين كانوا محتجزين في سجونها بمدينة عفرين شمالي حلب في مارس (آذار) الماضي، وفي يوليو (تموز) الماضي سلم العديد من المعتقلين الأكراد والعرب للنظام ضمن الاتفاقية التي تمت مؤخرًا بين النظام، وما تسمى بالإدارة الذاتية التابعة لـ(PYD)، والتي بموجبها سيتم تسليم النظام كافة الدوائر الحكومية والمؤسسات الخدمية المختلفة.
إغلاق المدارس المسيحية لأنها لا تدرّس المنهاج الكردي
خلال الأيام القليلة الماضية، وبينما كان سكان مدينة القامشلي الواقعة في محافظة الحسكة يستعدون لبدء العام الدراسي الجديد، قامت ما يسمى بـ«الإدارة الذاتية الكردية» بإغلاق المدارس السريانية الأهلية التي تتبع الكنائس المسيحية؛ إذ اغلقت العناصر المسلحة المدارس، وطردوا المعلمين والإداريين والطلاب.
هذا الإغلاق جاء بعد حملة تضييق كبيرة انتهجتها الادارة الذاتية بحق المدارس المسيحية منذ أكثر من ثلاث سنوات، فعممت ما تعرف بـ«هيئة التربية والتعليم» في الإدارة منتصف أغسطس (آب) بوجوب إغلاق جميع المدارس الخاصة بداعي أنها غير مرخصة من قبلها، وأنها مخالفة لأحكام هذه الهيئة، رغم أن هذه المدارس مرخصة من قبل النظام السوري منذ عقود وتلتزم بتدريس المناهج الرسمية المعترف بها وتعلّم اللغة السريانية، وكانت واحدة من أهم هذه المدراس التي أغلقت هي مدرسة «السريان» الخاصة في مدينة المالكية التي تأسست قبل أكثر من 90 عامًا.
وحسب موقع «المدن» اللبناني فإن هيئة التربية والتعليم في الادارة الذاتية «تواجه مشاكل وتحديات على مستويات مختلفة، وتتصاعد وتيرة الانتقادات لها؛ فمن جهة تفتقر إلى الكوادر المناسبة للقيام بالعملية التربوية وفق مساراتها الصحيحة، ومن جهة أخرى تفتقر إلى الشرعية والاعتراف الدولي؛ كونها تابعة لسلطة لم تحصل لغاية الآن على الاعتراف الرسمي».
ويضيف التقرير: «هذا عدا عن اتهامات من قبل معارضي الاتحاد الديموقراطي، للهيئة بأدلجة المناهج، ويضع ذلك مناهج الإدارة الذاتية أمام تحدٍ بعدم التقبل الجماهيري لها من مختلف المكونات، ويدفع قسمًا كبيرًا من الجمهور لتفضيل المنهاج التربوي للنظام».
ويؤكد المرصد الآشوري لحقوق الإنسان على جملة من الانتهاكات التعسفية ترتكبها الإدارة الذاتية منها: «التضييق على المدارس المسيحية، واعتقال الشباب المسيحي وجره إلى الخدمة العسكرية ضمن مليشياتهم، مصادرة أملاك المهاجرين المسيحيين، فرض خوّات وضرائب على المواطنين، فرض مناهج على مدارس المحافظة تحض على الكراهية والعنف، إغلاق مقرات الاحزاب والمؤسسات في المحافظة، بالإضافة إلى عمليات التغيير الديموغرافي التي تنتهجها هذه الإدارة منذ ثلاث سنوات وحتى اليوم».
ويضيف بيان المرصد: «هذه الممارسات ستجر محافظة الحسكة إلى المزيد من الانقسامات وصولًا لصدامات ونزاعات خطيرة، فضلًا عن كون هذه الانتهاكات وغيرها من الانتهاكات السابقة بحق مكونات المنطقة من شأنها زعزعة أمن واستقرار كافة مكونات المنطقة، وبالتالي خسارة كبيرة للمحافظة التي تعرف بتنوعها الإثني والديني والثقافي».
هل من صراع عربي كردي يلوح في الأفق؟
في نهاية يونيو الماضي، شنت قوّات سوريا الديمقراطية حملة عسكرية ضد «لواء ثوار الرقة»، وهو اللواء العربي الوحيد في الرقة الذي تؤيّده العشائر العربية، وفي إطار هذه الحملة أعلنت حالة الطوارئ داخل المدينة، واستقدمت تعزيزات عسكرية كبيرة تحت ذريعة وجود خلايا «داعشيّة»، واعتقل العديد من عناصر من اللواء إثر حصارهم في المقرات ونصب الحواجز.
وتؤكد المصادر السورية في الرقة أن حملة قوّات سوريا الديمقراطية على اللواء جاءت إثر توتر العلاقة بينهما؛ بسبب رفض الأخير الانخراط في صفوفها، ورفض اللواء للانتهاكات التي تمارسها الوحدات الكردية بحق أبناء المدينة، وردًا على هذه الحملة جاء في بيان لواء ثوار الرقة: «إن السلاح الذي سلمته الولايات المتحدة الأمريكية لميليشيا (PKK) للحرب على الإرهاب، وقتال (داعش) موجه اليوم إلى صدور أبناء الرقة، بعد القضاء على (داعش)».
وتابع البيان: «الغاية لم تكن طرد داعش ورفع الظلم عن الرقة وأهلها، بل سد فراغ (داعش) بدواعش آخرين يرفعون شعارات ديمقراطية تنادي بالحرية، والواقع أن السلاح الذي في يد مليشيا (PKK) موجود الآن لسببين، الأول قمع المدنيين والآخر إشعال الفتنة بين العرب والكرد».
وحين حاولت نحو 25 سيدة المطالبة من أمام سجن في منطقة الصوامع بمحيط الرقة، بالإفراج عن ذويهم من اللواء، ردت قوات سوريا الديمقراطية باعتقالهن في أحد المراكز الأمنية، وذلك بالرغم من تواجد دورية أمريكية لم تتدخل لمنع (قسد) من اعتقال النسوة آنذاك، ولم يبد الأمريكيون بشكل عام أية إشارة علنية تظهر الاعتراض على سلوك (قسد).
يقول الكاتب الصحافي خليل عساف: «ربما حصلت على ضوء أخضر أمريكي لإنهاء اللواء، إما بحله نهائيًا، أو بدمج عناصره كأفراد في مجاميعها العسكرية وإحباط أي حراك سياسي محلي ما دامت المعركة مع تنظيم (داعش) قائمة، وتاليًا قطع الطريق على الأطراف المحلية في الجزيرة السورية ممن كان يمكن أن تشارك في العمل السياسي في مرحلة ما بعد (داعش) أو مرحلة بناء نظام سياسي جديد في سوريا».
ويضيف في موقع «المدن» اللبناني: «ملامح صراع قومي عربي كردي بدأت تتضح وتتعدد في مناطق شمال سوريا وشرقها؛ الأمر الذي يلائم بطبيعة الحال احتياجات كل من نظام الأسد وتركيا، التي لا تكف عن إطلاق تهديداتها في المضي إلى ما بعد منبج، لكن يبقى أن الطرف الأكبر قوةً وحضورًا ونفوذًا في المنطقة، حتى انتهاء تنظيم (داعش) على الأقل، هم الأمريكيون الذين قد لا يعجبهم نشوب حريق جديد فيه».
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.