تشهد أرياف محافظات الجزيرة السورية حرقًا لمحاصيل الشعير والقمح، منذ منتصف أيار/ مايو الجاري. وقد تزامنت هذه الظاهرة مع موسم الحصاد في هذه المناطق التي يعتمد فلاحوها على زراعة القمح والشعير كمحصولين شتويين. وبدت الحرائق للوهلة الأولى حوادث متفرقة ومنفصلة، لكن تكرارها واتساعها اليومي، خلال الأيام العشرة الأخيرة، كما تركزها في حقول مزارعين وفلاحين عرب بالدرجة الأولى، لفت الأنظار إلى احتمال أن تكون عمليات الحرق سياسة منهجية.
موسم المحاصيل الشتوية هذا العام كان واعدًا جدًا، وبخاصة في أرياف الحسكة والرقة، حيث يكون الاعتماد على الزراعة البعلية أكثر من المروية بعد هطولات مطرية وثلجية غزيرة. وقد قُدر إنتاج الدونم الواحد من الشعير في أول أيام الحصاد بـ 500 كيلوغرام للدونم الواحد، وهذا ما يساوي 5 طن للهكتار الواحد، أو “الشوال” بحسب المصطلح المحلي. ويتحدث فلاحو المنطقة عن موسم استثنائي يقارنونه بموسم 1988، الذي يطلقون عليه “سنة الدكمة” لوفرة محاصيلها التي فاقت قدرة مؤسسة الحبوب وقتذاك على توفير العدد الكافي من الأكياس، مما دفع مزارعي وفلاحي المنطقة إلى توريد محاصيلهم من دون أكياس.
الأرجح أن أول حرق لحقل جرى رصده هو الحريق في محيط “غويران شرقي” بمحافظة الحسكة، يوم 15 أيار/ مايو. ثم تتالت الحرائق وتعددت في الحسكة ودير الزور وريف الرقة الغربي والشمالي: حقول قرية “العابد”، شرقي محافظة الحسكة يوم 16 أيار/ مايو. ويوم 17 أيار/ مايو حُرقتْ حقول قرية “عجاجة”، جنوب الحسكة، وقرية “التويجيل” في ريف رأس العين الغربي وعين عيسى في ريف الرقة الشمالي. وفي 20 أيار/ مايو، اندلعت حرائق أخرى في قرى “السمران” و”جمعة الحمد” في ريف عين عيسى بريف الرقة الشمالي وقُرى “الطيبة” وجهجاه” و”الفسكانة” و”الهيشة” بريف الرقة الشمالي. وأُحرقت يوم 21 أيار/ مايو حقول قرية “أبو وحل” في ريف الرقة الشمالي الشرقي. وفي اليوم التالي، 22 أيار/ مايو، أُحرقت حقول قُرى “المحمودلي” و”هداج” و”الطركة” بريف الرقة الغربي؛ وأول أمس، 23 أيار/ مايو، أُحرقت حقول في قرية “الأعيوج” و”اليمامة” بريف الرقة الشمالي أيضًا.
هذه الحرائق اليومية المتنقلة جعلت سكان محافظة الرقة خاصة يعيشون أوقات خوف وترقب. فلجؤوا بداية إلى فرق الإطفاء القريبة، في الرقة وعين عيسى وتل أبيض، لكن تلكؤ هذه الفرق من جانب، وسوء وبدائية أدواتها ومعداتها من جانب آخر -وهذا أمرٌ ربطه ناشطون محليون بالفساد عندما أشاروا إلى ارتباط توريد مواد وأدوات أفواج الإطفاء في المنطقة بعناصر في الإدارة الذاتية والميليشيات الكردية- دفع بالفلاحين المتضررين إلى الاعتماد على أنفسهم واعتماد طُرق بدائية وقديمة في مكافحة هذه الحرائق، إذ يعمدون إلى إخمادها بأيديهم مُستخدمين أكياس القمح المبلولة بالماء، أو عن طريق فلاحة أطراف الحريق بـ “السكة” التي يجرها جرار في حال توفره؛ كما بدأ سكان ريف الرقة بإجراء ورديات مناوبة لحراسة حقولهم.
وعن أساليب الحرق وأدواته، يتداول سكان هذه المناطق روايتين: الأولى أن مُشعلي الحرائق يستخدمون جهازًا إلكترونيًا يُلقى في هذه الحقول، وقد نشرت بعض صفحات التواصل الاجتماعي صور جهاز، ذُكر أنه يُستخدم في إشعال النار عن بعد. أما الثانية فتُرجح أسلوب “العدسة المكبرة”، حيث يُكتفى بوضعها بزاوية مناسبة مع اتجاه أشعة شمس الصيف الساقطة، ثم وضع بضعة قشات جافة لتحترق خلال ثوان، في حين يكون مُشعل الحريق قد غادر المكان.
وإذ لا تتوفر حتى الآن إحصائيات دقيقة عن المساحات المحروقة، ولا عن حجم خسارة الفلاحين بأرقام دقيقة، فإن ناشطون محليون يُشيرون إلى إجمالي وسطي بحدود 30000 ألف دونم، أي 3000 آلاف هكتار من القمح والشعير بالحد الأدنى. فإذا اعتمدنا أرقام إنتاج الدونم الواحد المذكور أعلاه، كمعدل وسطي لعموم الجزيرة السورية، أي 500 كغ للدونم الواحد، فإن حجم الإنتاج المحروق يبلغ 15 مليون كلغ، أي، 15 ألف طن من الحنطة أو الشعير. وتكون القيمة المالية لهذه الكمية المحروقة أقلّ بقليل من ثلاثة مليارات ليرة سورية، إذا كانت كل الحقول المحروقة قد زُرعت قمحًا، وأكثر من مليارين وربع المليار، إذا كانت قد زُرعت شعيرًا، بحسب أسعار الشراء التي حددتها “المؤسسة العامة للحبوب” التابعة لوزارة الزراعة في حكومة نظام الأسد.
وكانت حكومة النظام السوري قد حددت سعر شراء كيلوغرام القمح الواحد بـ 185 ليرة سورية لهذا الموسم، أي بزيادة 10 ليرات عن أسعار الموسم الماضي، كما حددت سعر كيلو غرام الشعير بـ 135، فيما سعرت “الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية”، التابعة لميليشيا “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، سعر كيلو غرام القمح بـ 150 والشعير بـ 100 ليرة سورية فقط.
وفيما الحرائق تندلع فجأة في مناطق متباعدة ولكن بصورة منتظمة، فقد كثرت التكهنات والتحليلات، حول الطرف المسؤول عن إشعالها. فالبعض يُشير إلى بقايا تنظيم (داعش)، بينما يُشير بعض آخر إلى دور للنظام السوري في إشعال هذه الحرائق، عبر متعاونين محليين، على حين أن هناك من يُشير إلى حقيقة أن خريطة انتشار الحرائق تقع ضمن المنطقة التي تُسيطر عليها القوات الكردية. هذه الحقيقة تجعل هذه القوات مسؤولةً مبدئيًا عن الوقاية من الحرائق وإطفائها في حال نشوبها، إذا لم تكن مسؤولة فعليًا، بشكل مدروس ومنظم، عن إشعال هذه الحرائق.
مَن يرون أن القوات الكردية هي المسؤولة عن إشعال هذه الحرائق، يُحددون ثلاثة عوامل إضافية أيضًا، يمكن أن تساعد في توضيح مصلحة حقيقة وإرادة لهذه القوات في هدر المقدرات الاقتصادية لسكان المنطقة. أول هذه العوامل هو عامل سياسي، إن جاز الوصف، يتمثل في رفض قطاع واسع من الفلاحين والمزارعين العرب بيع محاصيلهم إلى “الإدارة الذاتية” المُلحقة بهذه القوات، وتفضيلهم بيعها إلى النظام السوري، فيكون حرق محاصيلهم عقوبة لهم على انحيازهم السياسي. والعامل الثاني هو عامل اقتصادي بحت يتمثل في الفارق بين السعر الذي تطرحه حكومة النظام وذاك الذي تطرحه الإدارة الكردية. الفارق هو 35 ليرة سورية على سعر الكيلو الواحد من القمح أو الشعير. وهذا يخلق فارقًا يساوي 35 ألف ليرة سورية على سعر الطن الواحد، مما يجعل غير الراغبين في بيع محصولهم للنظام لأسباب سياسية يفعلونها لأسباب اقتصادية. أما آخر هذه العوامل فهو مزيج من العاملين السابقين، وهو رغبة الميليشيا الكردية في إبقاء سكان المنطقة تحت هيمنتها الاقتصادية والسياسية ودفعهم إلى الاعتماد عليها بحرمانهم من الاستقلال الاقتصادي النسبي الذي كان يمكن أن يُحققه هذا الموسم.
وفي جميع الأحوال وبالنسبة إلى كل هذه العوامل، فإن الجدل يستمر ليصل إلى نتيجة مفادها أن لا مصلحة واضحة للنظام أو لـ (داعش) في دفع السكان العرب إلى الاعتماد على الميليشيا الكردية، سواء اقتصاديًا في بيع محاصيلهم إليها، أو سياسيًا وأمنيًا في جعلها ضامنة لحياتهم ومصادر رزقهم.
في الأحوال كافة، فقدَ الآلاف من سكان منطقة الجزيرة السورية، ريف الرقة الشمالي تحديدًا (الذي تضعه الأحزاب القومية الكردية داخل خريطة كردستان الكبرى) ثمرةَ عام من الشقاء، كما فقدوا هذه السنة جزءًا من أمنهم الغذائي الأولي الذي يحققونه عادة من “المونة” التي يقتطعونها من محاصيلهم السنوية، طحينًا وبُرغلًا -قبل بيعها لمؤسسة الحبوب- من أجل لقمة كريمة مستقلة.
المصدر : شبكة جيرون