الرقة تذبح بصمت
جميلي الشهيد الخال لم يسعفني الزمن لأعرفكَ عن قرب، ولكن قرأتُكَ في عيون إِخوتي، وسمعتُك في سرداتهم الليليّة، علمتُ منهم أّنّك وُلِدْت من جديد في كانون، فأيقنْتُ أنّه في كانون يولَد الأنبياء والشهداء، وآمنْتُ أنّك حيٌّ تُرزق في السماء، الخال ناجي وأنا أتنقلُ بين سطور تاريخِكَ تسلَّلَتْ من بينها أشعةُ (شمس) شباب المقاومة السِلميّة، ولكن سرعان ما حجَبَتْ سُحُبٌ سوداءٌ مقيتة نورَها خوفاً من أن يُلامسَ دفئُها أغلال العُبوديّة المفروضة آنذاك، سطرٌ فسطرٌ وصفحةٌ فصفحات، وأنا أقرأُ في ثنايا كلماتها وبعثرةِ حروفها ظُلمة أيّامٍ عشتَهَا في أقبيةِ أولئك الأوغاد، محاولين اجتثاث أفكارك ولم يكونوا يعلموا أنّها في قلبك، وفوق السحاب المركوم في سمائكَ، والذي بدأ ينقشع عندما قمتَ بتأسيس مكتب لتدريب الشباب الثائر لينقُل الإيمان بالفكرة عبرهم إلى جميع أنحاء العالم، نعم ياخال، فرسالتك كرسالات الأديان السماويّة بدأت سريّة ثمّ أصبحت كدعوة وهي الآن جهريّة تخطّت البحار والجبال فأصبحت دين كلّ حُرٍّ على هذه البسيطة.
أمسحُ عن عيوني ضبابة الدمعِ وأنا أتابعُ الأوغاد وقد أرسلوا عليك شواظٌ ليكتموا أنفاسك بينما كنت تغرس (قرنفل أبيض) فاضحاً سوادَهم الذي اكتسح السَلميّة، وحلب ، والرقّة، وسائر مدن سوريا النضال، اقتطعوا جزءاً من رئتك ولم يعلموا أنّها تعود لتتبرعمَ بعبق الحريّة الأخّاذ، وأنّك أخذْت بنثر (حنطة) ليس في تراب الوطن فحسب، بل في عقول أهله وقلوبهم، فأصبحَتْ خبزهم اليوميّ الذي لا حياة بدونه، فيما كان يعتبره أعداؤك خبز (زلط) لا تتقبّله مَعِدَهم المحشوّة بلقمة الذلّ والعبوديّة، والتي تمرّدتَ عليها، وأبيتَها كقوتٍ لأبناءِ بلدك، مُتنقّلاً بين حارات الشام تلوذ بروحك الطاهرة حذراً من أن لن تُكملَ ما بدأْتَهُ، فتختنقَ بصرخةِ حقّ بين أيدِيهم المدمّاة بقهر الشعب المظلوم، من درعا المهد تخطو تاركاً أثر العونِ لأبنائها، إلى البلد الجارة التي لم تفِ بالعهد، لتُرسِلَكَ إلى تركيا، لتصبحَ غريب العروبةِ المتهالكة، ولكن بإيمانك ياخال يكون الوطن بعد أن أصبحت (حِنطة) سنابلٌ بات يحصدها الشباب الثائر فتصبحُ في يدٍ قلم، وفي أُخرى آلةٌ ترصدُ الظلم، ويدٍ تُحرّر الحروف من قيود الكلمة، فكانت (بصمة سوريا) بصمةُ العبورِ لكلّ قلبٍ مؤمنٍ بأنّ الحُريّة لا بُدّ لها من سبيل يمتدّ امتداد الفكرة المحاذية للأفق الذي تغفو عندَه (شمس) مُنتظِرةً بزوغ فجر كلّ صبح، ولكنّ اليد الغادرة استغلّت الظلّام الحالك بينهما لتطالك الرصاصة التي لطالما كان جسدك يجفو من صوتها، اخترقت رأسك مُدّعين بأنّهم كمّموا صوت الفكرة، ولم يعلموا بأنّ الفكرة لا تموت برحيل صاحبها، الفكرة تموت بمُجرّد أن يزول الإيمان بثبوتها ورسوخها.
ألف مُواطن صحفيّ أوقدْت لهم من شعلتك التي لا تزال تشعّ في أفكارهم، وبين سطورهم، ألف مواطن صحفيّ بينهم فريق الرقّة تُذبح بصمت إلى أن أخرَجتَهم عن ذاك الصمت، ألف مواطن صحفيّ لم أكن بينهم ولكنّي عملتُ على أنّ #صحافة-المواطن-باقية.
لطالما كنت تقول” بقْوَى فيكن يا ولاد أختي” ونحن نقول” مستمرّين من بعدك يا خال”، ما راحت يا خال.
مستمرّين ما دامت أمواج يمّ ترسو بأفكارك على شطآن الحريّة، مستمرّين ما دامت إيميليا تسعى وتنافس لتصدح بصوت حنجرتها المبحوحة: أنْ يا بشرى دعي عنكِ الحزن وصلّي للناجي من جرف تلك الأرض المقهورة.