” أبو زيد انتبه ع أهلي ما ضللن حدا “ هي الكلمات الأخيرة التي نطق بها محمد لسائق السيارة ، أبو زيد ، قبل إعدامه ميدانياً على حاجز لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ، وهي ذاتها الجملة التي بقي السائق، الذي اعتقله عناصر التنظيم أيضاً، يرددها أثناء التخدير ما بعد العملية بشكل لا إرادي .
السائق أبو زيد كان الناجي الوحيد من تقدم عناصر داعش المفاجئ في مدينة الرقة وسيطرتهم عليها دون أي توقعات مسبقة.
يتكلم أبو زيد وهو يسحب أنفاسه بصعوبة، يحمل مآسي وحلم يقظة لا يفارقانه بعد إعدام رفيقي دربه، وعلى الرغم من الأشهر الطويلة التي مضت على الحادثة ما زال يتذكرها وكأنها تجري أمامه، ويبكي بنفس حرقة المرة الأولى التي استيقظ فيها ولم يجدهما معه.
– لم نتمنى العودة، قال أبو زيد، ذهبنا إلى تركيا لقضاء أسبوع عطلة ليكون خروجنا الأول من الرقة منذ تحريرها. فجر اليوم التاسع من شهر كانون الثاني عام 2014، في اليوم الرابع من الاشتباكات بين داعش والفصائل المقاتلة في مدينة الرقة، جاءنا الأمر من قائد الكتيبة بالعودة لمرافقة أحد الصحفيين.
وصلوا إلى مدينة الرقة صباحاً. لم يبقى لداعش وقتها سوى مقر المحافظة في وسط المدينة. كان مقرهم القريب من شارع النور محطتهم التي رافقهم منها الصحفي لتبدأ الجولة في ظل الاشتباكات الدائرة مع أصوات المقاتلين على أجهزة اللاسلكي التي تطالب بمحاصرة عناصر داعش ومنعهم من التقدم.
قرب محطة أبو الهيف للوقود رأوا الحاجز الأول لحركة أحرار الشام الإسلامية، والذي قد تم تحصينه بالقرب من مسجد النور. كان أبو زيد يقود السيارة، ويجلس إلى جانبه محمد , و كل من أنس والصحفي في الخلف. لم يشعر محمد بالارتياح بسبب استنفار عناصر الحاجز وإحاطتهم بالسيارات، وبشيء من التوتر طلب محمد من أبو زيد التوقف قبل الحاجز بمئة متر.
لم تفارق الدموع وجه أبي زيد وهو يروي ما جرى، وبدا متعباً كعجوز وهو في العشرينات من عمره. مسح يديه ببعضهما وأكمل .
نادى أنس على اللاسلكي: “أحرار شارع النور، أحرار حدا يسمعني؟”
– تفضل شيخ أسمعك أسمعك .
– شيخ معاك أنس أبو حمزة، إذا أنتو ع الحاجز أتمنى حدا يكشف عن وجهو لأنو بدنا نعبر .
– شيخ في اشتباكات وما نقدر نكشف الأمنيات .
– شيخ قلتلك معك أنس أبو حمزة والحاجز يعرفنا. ممكن تعطيني المسؤول وخليه يكشف عن وجهو .
– شيخ قلتلك أمنيات .
أنهى النقاش إطلاق نار كثيف من الحاجز باتجاه السيارة .رصاصة من مضاد طيران متوسط اخترقت باب السيارة وقدم أبو زيد. بدأ محمد يرمي بعض القنابل اليدوية التي كانت معهم في السيارة ليشتت انتباه الحاجز، تزامناً مع زحف الصحفي إلى شارع فرعي قريب من السيارة حتى استطاع النجاة .
لم يستمر الاشتباك سوى دقائق قليلة بسبب نقص الذخيرة المتواجدة معهم. استطاعت سيارتان من الحاجز إحاطتهم وأخذ السلاح، ثم قاموا بإعدام محمد وأنس ميدانياً .
توقف أبو زيد للحظة عن الكلام، وبعد تنهيدة أردف: “لقد أعدموهما أمام عيني. أوقفوهم على الجدار. قال محمد لي حينها أبو زيد انتبه ع أهلي ما ضللن حدا، ثم كررها مرة ثانية وكأنها لعنة ستبقى معي إلى الأبد.” وفي تلك الأثناء كان أنس قد لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن أطلق عليه عنصرين مخزنين من رصاص رشاشات كلاشينكوف تنفيذاً لقرار المسؤول عن الحاجز .
– خرجت من السيارة وأنا كمن ترثي ولدها على قبره. أتى أبو عزام، والذي عرف عن نفسه كقائد عسكري في داعش. هنا عرفت أنهم استطاعوا التقدم واستعادة أجزاء من المدينة.
أمر أبو عزام بنقل أبو زيد مع باقي الأسرى من عناصر الجيش الحر وحركة أحرار الشام الإسلامية بوساطة شاحنة زيل عسكرية متوقفة بالقرب من الحاجز إلى مبنى المحافظة .
– وصلنا إلى ساحة المحافظة. كنا ثمانية عشر شخصاً. لم يظهر الخوف على وجوههم وكأنهم كانوا ينتظرون الموت الذي أتاهم من غير موعد. آخر ما أتذكره أنني تلقيت رصاصتين في الصدر، واحدة منهما اخترقت جسدي، ورصاصة في الفخذ كسرت العظم لتسقطني مباشرة.
– أبو زيد.. أبو زيد.. أنت عايش.
امتزجت دمعة أبو زيد بابتسامته وهو يقول: ظننت أن الملائكة تناديني باسمي لأنني كنت أتقرب من رب العالمين بأعمالي. ضغطة خفيفة على صدري كانت تكفيني لأشعر بالألم في كل جسدي وخدر كبير. لم أعلم المدة التي بقيت فيها على هذه الحال. لم أستطع الكلام وكنت أكتفي بالإيماء قليلاً بيدي مع الأنّات التي خرجت مني .
استيقظ أبو زيد بعدها على صوت المسعف في مشفى المواساة. أخبره المسعف أن عناصراً من التنظيم أجبروه على معالجتهم داخل مقر المحافظة، وبعد السماح له بالخروج وجده يأن في إحدى حاويات القمامة فتعرف عليه مباشرة بعد أن كان قد رآه مسبقاً في المشفى عدة مرات.
بعد فترة قصيرة وصل أخوته لإخراجه قبل وصول عناصر داعش إلى المشفى حيث كانوا يسعون للسيطرة عليه بعد أن أخبرهم الممرض بذلك. نقلوه بداية إلى المشفى الوطني الذي كانت تسيطر عليه كتيبة تابعة لحركة أحرار الشام الإسلامية. أخرجوا من جسده الرصاصات وركبوا له مفجّرات خارجية بسبب عدم وجود إمكانات لإجراء عملية جراحية له، ثم سرعان ما تم تحذيرهم مرة أخرى من عزم عناصر داعش السيطرة على المشفى، فقام أخوته بنقله إلى أقرب منزل آمن وهو تحت تأثير البنج.
بدأ أنين أبو زيد يتعالى قبل استفاقته من البنج، وراح يتمتم: “أبو زيد انتبه ع أهلي ما ضللن حدا.. محمد لا تروح .. محمد لا تروح ما ضل لأهلك غيرك.”
محاولات عديدة لتهدئة أبو زيد لم تنجح إلى أن استيقظ وبدأ بتذكر ما جرى له. مرت ساعات طويلة وهو صامت والدموع تنهمر، يقطعها أحياناً بتمتمات غير مفهومة، وبقي على هذه الحال لمدة ثلاثة أيام.
بدأ التوتر يعم الرقة بعد بدأ عناصر داعش بتنفيذ مداهمات عشوائية للمنازل ومقرات الكتائب الأخرى. في صباح اليوم التالي 12-1-2014 ، وهو اليوم الذي أعلن فيه التنظيم سيطرته الكاملة على مدينة الرقة، تم تفكيك المفجرات الجراحية لأبو زيد باستخدام أدوات بدائية من قبل طالب تمريض تثق به العائلة نتيجة لعدم وجود طبيب بسبب الأوضاع السيئة في المدينة .
مضت عدة أيام يتحرك فيها أبو زيد بصعوبة، وحالة تأهب تعم المنزل خوفاً من مداهمة مفاجئة. قرر أبو زيد حلق لحيته وشعره، واتخذ قراره بأن يقود سيارته متجهاً إلى ديرالزور برفقة زوجته وأخيه. كانت مخاطرة كبيرة، حيث أصر على أن يقود السيارة كي لا يشك عناصر التنظيم بأنه مصاب. حمل هوية أحد أقربائه ومضى باتجاه دير الزور.
بعد ثلاثين كيلو متراً خارج مدينة الرقة، استلم أخوه قيادة السيارة، حيث كان الجيش الحر هو من يسيطر على الطريق إلى دير الزور حينها.
أكمل أبو زيد معالجته في ريف دير الزور، ليتوجه بعدها إلى قرية صغيرة شمال دير الزور له صديق مقرب يسكن فيها، وأكمل حياته هناك يعتاش من دكان صغير، وابتعد عن السلاح والثورة بشكل كلي بعد صدمة كانت الأقسى عليه وذكرى لم تفارقه حتى اليوم.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.