ينتشر في أوساط المسيسين، من القوميين الأكراد في سورية، تصورٌ عن إقليم جغرافي متواصل، يربط شمال العراق بالبحر الأبيض المتوسط على طول الأراضي السورية المتاخمة للحدود السورية التركية، بعرض يزداد وينقص تبعًا لانتشار قرى لا تخلو من وجود أكراد في تركيبتها السكانية. وعلى ذلك؛ تدخل في هذا الإقليم – الحلم كل القرى والبلدات العربية، مثل عشرات البلدات والقرى في ريف الحسكة الشمالي، ومنطقة تل أبيض بريفها الضخم في ريف الرقة الشمالي، وعشرات البلدات والقرى مثل إعزاز ومارع في ريف حلب الشمالي أيضًا. هذا التصور يلحظ السيطرة على حقول النفط في الحسكة ومعظم الأراضي الزراعية، ضمن منطقة استقرار الأمطار الثانية في شمال سورية، إضافة إلى معظم مصادر المياه في البلاد. لكن نقطة ضعفه الأساسية هي حجم الحيازة الفعلية للعقارات والأراضي الزراعية في هذه المنطقة التي تميل لصالح العرب، وخاصة في المناطق العربية الخالصة مثل منطقة تل أبيض، لذلك خصت ميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية منطقة تل أبيض بسياسة متعددة الرؤوس، منذ سيطرتها على المنطقة بقيادة التحالف الدولي في صيف عام 2015.
سياسة (وحدات حماية الشعب) الكردية في تل أبيض تركزت على الجوانب الإدارية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، بغية تحقيق التصور المذكور آنفًا. فمن الناحية الإدارية؛ ألحقت منطقة تل أبيض بكانتون عين العرب، حين سيطرت عليها في العام 2015، أي أنها فصلتها إداريًا عن الرقة، مركز المحافظة. ومن الناحية الأمنية؛ حولت مدينة تل أبيض إلى معقل أمني لا يحق لأبناء ريفها مثلًا الدخول إليها دون إذن مسبق، كما أنشأت فيها مركزًا تدريبيًا مقتصرًا على أفراد قواتها من الأكراد فحسب، أي لا يمكن لعناصر ميليشيا (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) غير الأكراد التدرّب فيه. ومن الناحية الاجتماعية؛ خلقت “مشايخ” جدد جندتهم في إدارتها، وأدخلتهم شركاء صغار في بعض ما تقدمه الدول والمنظمات المانحة للاجئين والمزارعين في المنطقة، كما غلَّبت العائلات والعشائر الصغيرة على العشائر الكبيرة، عبر تجنيد شبان هذه العشائر في صفوف قواتها، وإطلاق يدهم في ممارسات تسلطية مستندين إلى قوة السلاح وغياب المحاسبة، ولعلّ سلسلة الأحداث التي جرت بين عشيرتي “البوعساف” و”الهنادي” خير مثال على ذلك.
لكن أخطر ما يمارسه (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي في شمال سورية هو سياسته الاقتصادية. حيث ترتكز هذه السياسة، بشكل جوهري، على تشجيع زراعة القنب الهندي، المادة الخام لإنتاج مخدر الكيف المعروف بالحشيش. تقليديًا، تل أبيض هي منطقة زراعية. سكانها يزرعون محاصيل استراتيجية: القمح والشعير للموسم الشتوي والقطن والذرة الصفراء وبعض الخضار للموسم الصيفي. لكن، مع تداعي سيطرة النظام في محافظة الرقة؛ بدأ المزارعون يواجهون صعوبات في تمويل وتصريف مزروعاتهم، هذه الصعوبات كانت تزداد موسمًا بعد آخر، إلى أن وصلت أوجها في الموسم الصيفي الحالي، حيث بلغت خسائر الفلاحين حدًا يُنذر بالكارثة، إثر إصابة القطن بآفة حشرية لم تتوفر الإرادة والنية الكافيتين، لدى قوة الأمر الواقع، لمعالجتها. وفي ما سبق من مواسم، كانت الإدارة الكردية تشجع التوسع في زراعة الحشيش، على حساب القطن للموسم الصيفي بصورة تدريجية وشديدة التكتم. وهذه الزراعة تركز اليوم على طول نهر البليخ الذي ينبع من نبع (عين العروس) بالقرب من تل أبيض، ويخترق في طريقه إلى الجنوب أراضي قرى (حويجة عبدي، والعذية، وبوز الخنزير، وخربة الرز، والعلي باجلية، والدوغانية). ولهذا فإن معظم المزارعين العرب الذين تحولوا إلى زراعة الحشيش هم ممَنْ يمتلكون أراضي على ضفتي البليخ، وخاصة مَنْ يمتلون قطع أرض ضمن “الحوايج” أو بعيدة عن الطرق العامة وأنظار العابرين عليها.
يقول (أ. ش)، وهو مهندس زراعي من المنطقة: إن الحشيش “سيصبح المحصول رقم واحد للموسم الصيفي القادم في تل أبيض؛ إن بقيت الأمور كما هي من التوسع والدعم والحماية”، ويشرح أن زراعة الحشيش “تكاد تصبح علنية… لأن فلاحي المنطقة لا يستطيعون تحمل فشل موسم صيفي آخر”، ويشير خاصة إلى أن زراعة القنب الهندي تعني “أن تبحث عن شريك كردي، يوفر كل المستلزمات خلال ساعات من توقيع عقد الشراكة، وهو من يؤمن الحماية وتصريف المحصول، ناهيك عن أن زراعة القنب تحقق عائدات مادية أكبر بكثير من زراعة القطن أو البطيخ أو الذرة الصفراء”.
من جانب آخر، يرى (خ. ع) -وهو معلّم مستقيل تحول إلى العمل بالأرض رفضًا منه للمناهج التي تفرضها الإدارة الكردية على مدارس المنطقة- المسألةَ من منظور أشمل. إذ يعتقد أن “توريط الفلاحين والمزارعين العرب في زراعة الحشيش قد يؤدي إلى فقدانهم أراضيهم في نهاية المطاف”؛ وأضاف موضحًا: “إن سهولة وسرعة الأمور، عندما يتعلق الأمر بزراعة الحشيش، توحي بأن المهم هو أن تتورط، لكنك لن تستطيع أن تتحكم في الأمور بعد بداية الورطة… فما يدريك متى ستتحول قوات (الأسايش) و(وحدات حماية الشعب) الكردية من محاربي إرهاب إلى محاربي حشيش؟! وماذا تفعل إذا وجدتهم يومًا قادمين لحرق محصولك من الحشيش أو مصادرة أرضك، لأنك تزرع الحشيش؟!”. وبالفعل، لا يبدو هذا السيناريو خياليًا، في ظل الوضع العام الذي تعيشه المنطقة والتفويض المفتوح من التحالف الدولي لـ (قوات حماية الشعب) الكردية، في ضبط المنطقة بأي صورة وبأي ثمن.
سيناريو خسارة الفلاحين والمزارعين العرب لأراضيهم في منطقة تل أبيض، لصالح أكراد هو أمرٌ وارد، على المستوى النظري على الأقل، ويعني أن الحركة القومية الكردية يمكن أن تفرغ منطقة عربية أخرى، بذريعة زراعة الحشيش، لإنشاء إقليم يبدو أنه سيعتمد في اقتصاده على الحشيش في مرحلة تأسيسه، كما كانت قد فرغت مناطق أخرى، بذريعة محاربة إرهاب (داعش).