الرقة تذبح بصمت
لطالما سعى شباب الرقّة الحُرّ بعد تقهقر النظام من مدينتهم لجعلها أيقونة الثورة، ونموذجاً لسوريا المستقبل، عملوا بكلّ جهدهم كي يسدّوا الفراغ الحاصل بانسحاب مؤسسات الدولة السوريّة، فعملوا في مجالات الإعلام، والخدمات الطبيّة، والإغاثيّة، واصلين اللّيل بالنهار كي تكون مدينتهم عاصمة التحرير عن جدارة، ونواة لسوريا الجديدة، لكن سرعان ما تلاشى وتدهور كلّ ذلك الأمل مع ظهور تنظيم “داعش”، الذي عمد إلى سرقة حقيقة الحلم، فراح يلاحق الناشطين المدنيين السلميين، والإعلاميين، يتخطّفهم غدراً، ويغتال الأمل فيهم، ممّا دفعهم لمغادرة الرقّة، بعد أن وقع كثير من شبابها في قبضة التنظيم، ولاقوا منهم أشدّ أنواع العذاب، وإخفائهم في غيابات السجون.
فمنذ الأيّام الأولى لحكم التنظيم أصبح يلصق التهم بحقّ شباب الرقّة، إمّا من أجل أن يزجّه في السجون والمعتقلات، كون أنّ القسم الأكبر منهم كان رافضاً للتنظيم وسياسته التعسفيّة بحقّ أهالي الرقّة، أو من أجل أن يتمّ تنسيبهم في صفوفه، وهدر دمائهم على جبهاته المتخبّطة، ناهيك عن تضييق الخناق عليهم، إذ فرض التنظيم الكثير من القيود التي تخصّ تحرّكات الشباب من خلال إصدار تعليمات حول اللّباس، كرفع إزار البنطال، وعدم إرتداء أنواع محدّدة من القماش، وحلق الشوارب، وإطلاق اللِّحىً، والتدخين، وتحميل الأغانيّ والصور في الهواتف المحمولة، حيث أنّ كلّ واحدة من هذه المخالفات تُعرِّض صاحبها للسجن مع دورة شرعيّة تتراوح مُدَّتها بين 30-10 يوماً، ودفع غرامة ماليّة.
وليس فقط الوعيد كان ضمن أساليب التنظيم، بل الوعد أيضاً، فقد كان “داعش” يستغلّ الفقر والعوز الذي لحق بأهالي الرقّة عقب سيطرته عليها، إذ عمل على إغراء الشباب بدفع الرواتب الشهريّة، وإغراقهم بالمعونات في حال إنضمّوا وبايعوا التنظيم، وتزويجهم من الفتيات اللّواتي يودّون.
ولم يكن الشباب الرقّيّ ضحيّة التنظيم فقط، بل وقعوا فريسةً لقوّات الحشد الغازية المتمثّلة بتنظيم pkk و YPG، الذين يرمون إلى سحب الشباب نحو معسكراتهم، وكانت البداية في مناطق الريف الشماليّ، وذلك أثناء زحفها باتجاه مدينة الرقّة منذ قرابة العامّ، من خلال اقتحام منازلهم، أو توقيفهم على الحواجز، ولا تزال هذه السياسة مُتَّبعة عقب سيطرة قوّات سلطة الأمر الواقع اليوم على الرقّة، وذلك من خلال إصدار أوامر بتجنيد فئة عمريّة محدّدة، ممّن بقي من الشباب المتواجدين على أرض الرقّة، وهذا ما يستثير غضب الشارع الرقّيّ بشكلٍ يوميّ نتيجة القرارات التعسفيّة بحقّ الشباب، ونذكر في السياق أنّه منذ عدّة أيام قامت قوّات “قسد” بتوقيف مجموعة من الشبان من أبناء الرقّة العائدين من تركيا لقضاء إجازةً العيد، وتمزيق ثبوتيّاتهم الحاصلين عليها من الدولة التركيّة “هويّة الحماية المؤقّتة”، ومن ثَمّ سوقهم إلى معسكرات التجنيد الإجباريّ.
كلّ تلك القرارات ماهي إلّا سعي لإفراغ الرقّة من شبابها،وتغييرها ديمغرافيّاً، من أجل قيام دولة إنفصاليّة.
كلّ تلك الأساليب لم تكن حتّى الفتيات الشابّات بمنأى عنها، تدفع بشباب الرقّة من ذكور وإناث بشكلً يوميّ إلى مغادرتها، إمّا إلى دول الجوار، أو ليشقّوا طريقهم إلى أوروبا في عباب البحر الذي كان له نصيبٌ منهم.
فالرقّة المدينة الفتيّة ترجح كفّة شيبها الذين ينظرون بعينٍ مودِّعةٍ للحياة ألا ليت الشباب يعود يوماً.