الرقة تذبح بصمت
لم يكن العنوان كافيًا، فهي درة الفرات، وعاصمة التحرير بنظر ثوارها، بل وثانيّ منازل الدّنيا الأربعة كما دلّ عليها الخليفة العبّاسيّ هارون الرشيد، وهذا ما يؤكِّد قيمة تلك الدلالة عندما اختارها الرشيد دارًا للخلافة، حيث أنَّ طيب المناخ فيها والمُستّمَدُّ من عذب الفرات، كان العامل الأبرز، إذ بلغت الرقّة في تلك الحقبة أوجها من الناحيتين العمرانيّة والفكريّة، وكانت الحاضرة الثانية للدولة العبّاسيّة بعد بغداد، فكان هذا العامل الطبيعيّ لقيام حضارة الرقّة على جانب نهر الفرات، كما حضارتي وادي النيل، و بلاد الرافدين، ولكن هناك العامل الثانيّ وهو العامل الجغرافيّ المتميّز لها، والذي لايزال رغم مرور الحِقب يجلب النقمة إلى الرقّة، وبسبب موقعها بالقرب من حدود الإمبراطوريّة البيزنطيّة آنذاك، فقد كانت توفر سهولة التصديّ لأطماع البيزنطيين، وقيام الغزوات للدفاع عن ثغور الدولة العربيّة.
أمّا العامل الثالث وهو توسّط الرقّة ما بين بغداد ودمشق، إذ كانت الأخيرة عشق الخليفة الرّشيد، والتي سمّاها أُولى منازل الدنيا، وهذا ما دفعه لبناء القصور وتشييد العمران خارج سور الرقّة، حتّى أصبحت وجهةً يؤمُّها الشعراء، ومحطةً يقفُ عندها الرحّالة طويلاً.
أسماءٌ وألقاب سُمِّيت بها الرقّة توتول، عاصمة الرشيد، درّة الفرات، لم يكن لها نصيبٌ من دلالاتها مرّت بعدها الرقّة بعهودٍ وفتراتٍ من الركود والانحطاط الفكريّ والعمرانيّ، نتيجة تغاضي الحُكّام والحكومات التي مرّت وتعاقبت عليها عن النهوض ببنيتها التحتيّة، وتهميش المجتمع الرقّيّ عن اللّحاق بركب الحضارة من جديد، ولكن لم يمنع هذا التهميش أهالي الرقّة باللّحاق بركب الثورة التي انطلقت في سوريا عام ٢٠١١، لتعيد التاريخ وتصبح “عاصمة التحرير” بعد تخليصها من قبضة النظام الأسديّ عام ٢٠١٣، ولتكون المعنى الحقيقيّ للقب “عاصمة”، حيث انتعش القطاع التجاريّ وذلك لتميزها بموقعها الحدوديّ مع تركيا من جهة الشمال، والقطاع الزراعيّ الذي تُعرَف به لوقوعها على نهر الفرات، كما ونشطت تجارة البترول لينهض باقتصاد المحافظة بشكلٍ كبير ومُتسارع، وهذا ما جعل منها نافذةً لمطامع استعماريّة جديدة، تمثّلت بتشكيل تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام أو بما يُعرَف بـِ “تنظيم داعش”، ليُعلِنوا الرقّة للمرّة الثالثة تحت مُسمّى عاصمة للخلافة الإسلاميّة، ظنّاً منهم إحياء أمجاد الخلافة، ليعيد التنظيم الرقّة إلى عصور الحضيض، ويطفئوا نبراس عهدٍ من حريّةٍ مسروقة، قاسى خلالها أهل الرقّة الويلات، ولاقوا من الظلم والمظالم مالم يُلاقوه من عصورٍ ولّت، اغتالوا الرقّة تحت جنح الظلام، غسلوا الفكر، وسجنوا الجسد، فكانوا بذلك رحّالة العصر الذين روجوا للرقّة، وجذبوا العالم أجمع إليهم وعليهم، بعددهم وعتَادهم، بحجّة تخليص الرقّة من الإرهاب، وذلك بطمس معالهما، وتغييرها ديمغرافيّاً، باستبدال أهلها الأصليين بقوميّات تسعى لفصل الرقّة عن سوريا الأمّ، حيث قاموا بتشريد أهلها كلّ مُشرَّد، عدا الذين قضوا تحت رُكام الأبنية التي حالت أطلالاً، بفعل طيران التحالف الدوليّ، لتُصنَّف الرقّة وبكلّ أسف العاصمة المحرقة.