الرقة تذبح بصمت
أجمع العالم وبقرارٍ أمميّ في عام ١٩٧٧، على تحديد يوم الثامن من آذار من كلّ عام، يومًا خاصًّا بالمرأة، إذ أتاح هذا اليوم للمرأة فرصة التعرف على حقوقها وواجباتها وعرض إنجازاتها، وتحفيزاً أيضاً على استرداد حقوقٍ مسلوبة، والوقوف بوجه العنف والتعنيف الذي كان جزءًا من حياتها اليوميّة، ولطالما كانت الديانات السماويّة السبّاقة في تشريع حقوق المرأة والتوصية بها، فقد عُرِفت على مرِّ العصور والتشريعات الدينيّة والدنيويّة بأنّها نصف المجتمع، والمُكمّل لهذه الحياة.
ولكنّها اليوم في سوريا وفي ظلّ ظروفٍ قاهرة، تجد نفسها تجابه كامل الأعباء التي ألقتها الحرب الطاحنة عليها على مدار سبعة أعوام، لتتسلّم زمام عمادة الأسرة، فهي الأمّ والأب في آنٍ معاً، بعد فقدان المعيل لها الذي كان إمّا ضحيّة الحرب أو مغيّب في السجون، ولا ننكر أنّ المرأة السوريّة بشكلٍ عامّ والرقيّة على وجه الخصوص كانت المُساهم الأوّل في بناء مجتمعها حتّى قيام الثورة في آذار ٢٠١١، لتكون أوّل الأصوات التي صرخت في وجه النظام والثورة عليه، ليس ذلك فقط بل كانت في كثيرٍ من الأحيان المخلّص للشباب الثائر من أيدي عناصر حفظ النظام، والمداوية لجروحهم عند الاعتداء عليهم، ولا ننسى دعمها للثورة من خلال الأعمال اليدويّة بإخاطتها للأعلام ورسم الشعارات، كما وكانت المشارك في استقبال النازحين، من أبناء المناطق الثائرة، من خلال مشاركتها في أعمال الطبخ، والمُهدية لكثيرٍ من أثاث وفرش بيتها ليكونوا في مأمن من الجوع والبرد، ولم تشفع أنوثتها وضعفها للتعرّض للمساءلة أو حتّى زجّها في السجون لتلاقي من ويلات وتعذيب واعتداء على يد النظام ما لا تصفه الكلمات.
وفي يوم تحرير الرقّة كانت أوّل من أطلق تباشير وزغاريد الفرح بالنصر على النظام الباغيّ، ووقفت بجانب الرجل تشاركه في إحياء عاصمة التحرير وإظهارها كنموذج لمدن الحريةّ، رافضةً في الوقت نفسه إيقاف العمليّة التعليمية على الرغم من القصف العشوائيّ الذي كان يطال الرقّة آنذاك، مؤمنة بأنّ العمل لا يكتمل إلّا بالعلم، فقد كانت السبّاقة والمتطوّعة الأولى لإتمام سير التعليم.
ولكن سرعان ما تبدّل كلّ شيء مع سيطرة تنظيم داعش، الذي عمل على إنهاء دورها وإسدال الستار على وجهها، معنّفاً إيّاها إمّا بكلامٍ يأبى لحيائها سماعه، أو بجلدِها وسجنها في أقفاصٍ مع جمام بشريّة، مضيّقًا عليها في الأسواق، مكرِهًا إيّاها على عدم مغادرة منزلها، وتأمين احتياجاتها، مُستغلًّا القذف بعرضها في حال تمرّدت عليه أحياناً، وثارت لحقٍّ من حقوقها، مصوّراً حالها في كثيرٍ من المآسي، جاعلًا منها الأمّ الثكلى، والتي تُسَرّ في نفسها السؤال عن ابنها الذي غُيِّب في دياجير سجونهم، والأمّ المودّعة التي سرت بقطْعٍ من الليل لتأمن على حياة ولدها، ملقيةً إيّاه في تابوتٍ تتقاذفه أمواجُ اليمّ، خوفًا لئلّا يقع في أيدي التنظيم، الذي قام بطيّ عهدٍ طويلٍ لدور المرأة الرقّيّة وفي جميع مجالات الحياة، من خلال التقييد على تحرّكاتها لتلملم نفسها في كلّ مرّةٍ كانت تعتقد باحترام حقٍّ ينادي دائمًا وأبدًا “رفقًا بالقوارير”.
واليوم ومع سيطرة ميليشيا قوات سوريا الديمقراطيّة ” قسد”، تبرز قضيّة المرأة من جديد، من خلال استغلال تلك القوّات لمكانة المرأة، الذي لم يكن من أجل المبادئ واحترام دورها في المجتمع، بل هي خطّة براغماتيّة كي تكون لهم جسراً للسيطرة على مناطق تنظيم داعش بشكلٍ كامل، مستغلًا ما كانت تعانيه على يد الأخير من تهميش وتخويف لها، وعلى الرّغم من ادّعاء هذا التقديس الكاذب من قبل ميليشيا “قسد”، من خلال تلميع صورتها الإعلاميّة، فإنّه بالمقابل يستغلّ وجودها في مخيّمات النزوح، وأنّها لم تتلقّى المساعدات في حال رفضها للأوامر، والتي تتمثلّ بزجّها على جبهات القتال التي تخوضها القوّات الكرديّة مع تنظيم داعش من جهة، والأتراك على جبهة عفرين من جهة أخرى، مستغلًّا فقر عائلتها وعوزها للسير في هذا الطريق المرسوم لها، الذي لم يختلف عن طريق تنظيم داعش في معاملتها.
فعلى الرغم من توالي القِوى على الرقّة جيئةً وذهابًا، تبقى المرأة السوريّة عامّةً والرقيّة خاصّةً ،ثابتةً في قوتها كلوحة الموناليزا، في كلّ حقبةٍ تجد فيها غموضًا لا ينفكّ ،وستبقى ما وُجِد الكون، امرأة لن ينساها التاريخ أبداً.