يبدو أن حجم الكارثة الإنسانية التي خلفتها المعركة على الرقة بين تنظيم (داعش) من جهة، وميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية مدعومة بالتحالف الدولي، والتي انتهت بانسحاب تنظيم (داعش)، أكبرُ مما أظهرته وسائل الإعلام حتى اليوم، ومما اعترف به الطرف المهاجم. إذ يبدو أن الفاتورة التي دفعتها المدينة من الضحايا المدنيين تفوق بكثير الأعداد المُعلنة حتى اليوم.
وكان فريق حملة (الرقة تُذبح بصمت) قد نشر مطلع شهر كانون الثاني/ يناير إحصاءات أولية لأعداد الشهداء المدنيين، وأعداد النازحين، وأعداد الغارات الجوية التي شنها طيران التحالف، والقذائف المدفعية التي سقطت على المدينة، خلال العام 2017 والمعركة على الرقة. واللافت في حصيلة الضحايا من المدنيين، وعددهم 3259 حسب فريق الحملة، هو تنوع القَتلة، إذ توزع دمهم على كل أطراف النزاع: قتل التحالف الدولي 2064 مدنيًا، وقتلت (قوات حماية الشعب) الكردية 426 منهم، وقتل تنظيم (داعش) 548 مدنيًا، وقتل الطيران الروسي 149 مدنيًا، وقتلت تركيا 9 مدنيين، وقتل النظام السوري في الفترة نفسها 6 مدنيين، فيما قُيّد موت 5 أشخاص، تحت بند “جهة مجهولة”، وغرق 52 شخصًا في نهر الفرات في أثناء محاولتهم العبور إلى إحدى الضفتين، بعد أن دمر طيران التحالف جسور المدينة كلها واضطر السكان إلى استخدام العبّارات والقوارب الصغيرة للهرب من القتال والقصف الدائرين في مدينتهم. كما قدرت إحصاءات الفريق عدد النازحين من المدينة بـ 450 ألفًا، وهم كل سكان المدينة مُضافًا إليهم نازحين من حمص وتدمر ودير الزور وحلب وأريافها.
لكن هذه الإحصاءات لم تورد أرقامًا دقيقة لأعداد الجرحى، بل قدرتهم بالآلاف، نظرًا إلى ما فُرض على المدينة من حصار إعلامي وغياب الكوادر الطبية المستقلة والمحايدة، إضافة إلى تدمير كل المشافي العامة والخاصة في المدينة. كما لم تشمل هذه الإحصاءات أعداد المدنيين الذين قُتلوا بغارات التحالف وما تزال جثثهم مطمورة بركام بيوتهم، ولا أعداد ضحايا الألغام المزروعة في جنبات المدينة كافة.
فمنذ انتهاء معركة السيطرة على المدينة، تتوارد يوميًا أنباء عن وقوع شهداء بين المدنيين من جراء الألغام. ويُقدر عدد مَنْ قتلتهم الألغام في مدينة الرقة ومحيطها القريب بـ 200 شهيد مدني حتى اليوم، فيما بدأ حجم الكارثة يتكشف بعد البدء بأعمال فتح الشوارع ورفع الأنقاض؛ إذ لا يكاد يمر يوم واحد، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، دون أن تعلن الفرق العاملة على فتح شوارع المدينة، ورفع أنقاض البيوت المُدمرة بفعل القصف الجوي والمدفعي من قبل التحالف الدولي و(قوات حماية الشعب) الكردية، عن العثور على جثث لمدنيين تحت ركام بيوتهم المدمرة. وكانت آخر عمليات انتشال للجثث من تحت الركام قد جرت أول أمس الثلاثاء لعائلة كاملة مؤلفة من أب وأم وأطفالهما الأربعة في منطقة “التوسعية” في غرب المدينة، كانوا قد قضوا في منزلهم بفعل قصف طيران التحالف مطلع الشهر العاشر من العام الماضي 2017. كما انتشلت فرق ترحيل الأنقاض جثة رجل وزوجته أمس الأربعاء من تحت ركام بيتهما في المنطقة ذاتها، وكانت أخبارهما قد انقطعت منذ الشهر التاسع من العام نفسه، إبان اشتداد المعارك والقصف على المدينة.
بموازاة ذلك، تعمل فرق وورشات تابعة لمنظمات مدنية وللمجلس المحلي، الذي شكَّلته (وحدات حماية الشعب) الكردية، بإمكانات وآليات قليلة على فتح الشوارع الرئيسة في المدينة، فيما تُسجل عودة بعض الأهالي إلى بيوتهم في أحياء المدينة الشرقية والشمالية الشرقية. عودة هؤلاء السكان محفوفة بمخاطر الألغام وكذلك بالاصطدام بفرق التعفيش التي تواصل سرقتها ما تبقى من أثاث وأجهزة ومعدات في البيوت والمحال والمؤسسات، ويبدو أنها تعمل بالتفاهم مع قوى الأمر الواقع وبحمايتها، وربما بالشراكة معها. واللافت في أمر فرق التعفيش هذه في فترة الشهر الأخير هو حضور العنصر النسوي؛ إذ يلحظ سكان محليون ممَنْ عادوا مؤخرًا إلى المدينة تنقّل مجموعات صغيرة من النساء، على تواصل وتنسيق مع حواجز ميليشيا (حماية الشعب الكردية)، بين الأحياء والأبنية المهجورة وسرقتها كل ما له قيمة من هذه البيوت. الأمر الذي دعا السكان إلى استنتاج وجود نوع من تقاسم العمل بين الطرفين؛ ذلك أن ميليشيا الوحدات تؤمن الحماية وخرائط انتشار الألغام، بينما تقوم عُصب تلك النسوة بالسرقة وتسويق المسروقات. ويُعززون استنتاجهم هذا بأن الألغام لا تنفجر “إلا بالناس الذين يعودون إلى تفقد ممتلكاتهم، لكنها تبقى نائمة أمام المعفشين والمعفشات”.
حال سكان الرقة هذه الأيام يمكن أن يكون مؤشرًا إلى حال عموم المدن والبلدات السورية، وبخاصة في ما يتعلق بتنصل الأطراف الفاعلة، المحلية والدولية، من مسؤولياتها عما أحدثته من قتل ودمار بحق المدنيين والعمران، كما تُشير هذه الحالة إلى أن حركة إعمار جدية لا بد أن تنطلق عبر الملف السياسي الذي يؤمن انتقالًا سياسيًا حقيقيًا، يسمح للسوريين بالعودة وإعادة بناء بلدهم بأيديهم.
المصدر : geroun.net