لم يكن أشد المتشائمين يتوقع أن تؤول مدينة الرقة التي تقع إلى شمالي شرق سورية وتبعد عن العاصمة دمشق نحو 500 كيلومتر، إلى ما صارت إليه من خراب ودمار يعيدان إلى الذاكرة ما فعله هولاكو التتار بهذه المدينة التي تضرب جذورها عميقا في التاريخ قبل أكثر من 800 سنة خلت.
لم يبق أثر للرقة إذ اختفى معظمها، وتحول إلى كتل دمار بسبب قصف عشوائي من طيران التحالف الدولي على مدى شهور لطرد مسلحي تنظيم “داعش” الذين اختفوا فجأة وكأنهم جاؤوا فقط ليكونوا سببا في تدمير مدينة كانت وادعة تغفو على ضفة نهر الفرات الشمالية، راضية هانئة بالإهمال والنسيان.
تشتهر مدينة الرقة بميدان كان يسميه الرقيون “دوار النعيم”، وكان قبل عام 2014 يضج بالحياة بكل تجلياتها، ولكن ذاك العام المشؤوم شهد تحدر الرايات السود من الشرق حيث ظهر مسلحو “داعش” الذين وجدوا في الرقة غنيمة سهلة تكون منطلقا إلى غيرها من مدن سورية خرجت عن سيطرة النظام.
تحول الميدان إلى مكان مفضل لمسلحي التنظيم لتنفيذ عمليات الذبح الجماعي والإعدام للأبرياء وغير الأبرياء، للمذنبين وغير المذنبين، وكان أهل الرقة مجبرين على المشاهدة، فتحول الدوّار من “النعيم” إلى “الجحيم”. ذات يوم مازح الشاعر السوري الراحل نزار قباني، أديب الرقة وطبيبها عبد السلام العجيلي، قائلا: أعطني سحر الرقة، وخذ نساء دمشق. ذهب السحر، وبقي الرماد؛ رماد الأمكنة ورماد الأرواح التي عاشت تقلبات دراماتيكية خلال فترة زمنية قصيرة كفيلة بدفن الروح قبل الجسد في لحد العجر والخذلان والغفلة. دمّر الطيران القادم من وراء الأطلسي، ومن مطارات الدول المجاورة الرقة ومن فيها، وبقي “دوار النعيم” شاهدا على القتلة؛ قتلة استقووا على مدينة مسالمة، كانت تعطي، ولا تأخذ، تُطعم، وهي الجائعة، وتسقي وهي العطشى، تداوي وهي المطعونة في خاصرتها تنزف قهرا وحزنا.
لم تنته مأساة الرقة رغم دمارها، فها هو “دوار النعيم” يخلع رداءه الأسود، ليلبسه آخرون رداء أصفر، بعد أن كان حلمه إلى وقت قريب بالرداء الأخضر الجميل. كانت الرقة مصيف هارون الرشيد ومدينته الأثيرة بعد دار السلام (بغداد)، ولا يزال السور الذي أحاط به حبيبته شاهدا على المرحلة الأزهى في تاريخ العرب. ولكن السور لم يستطع حماية الرقة في زمن الطائرات العابرة للقارات التي تعتبر التاريخ أشد أعدائها تدهسه من دون رحمة. من يعيد للرقة بهاءها وبريقها. في كل بيت من بيوت الرقة “عنّة وعويل”، تحوّل الألم في الرقة إلى قاعدة، والفرح إلى استثناء. فاض حزن الرقيين ولم يجد مسارب له إلا مجرى الفرات الذي تحوّل إلى بحيرات دماء ودموع السوريين من مدخله في جرابلس إلى مخرجه في البوكمال حيث أقصى الوجع السوري. لم يبق من “دوار النعيم” في الرقة إلا الأحجار المغمسة بالدماء التي تروي حكاية مدينة لم تكن تريد أن تصبح “عاصمة” لأحد، ولكنها وجدت نفسها في عين العاصفة التي هبت من كل اتجاه، فشردت الرقيين الطيبين الذين باتوا اليوم إما قتلى في القبور، أو جثثا لم تجد من يدفنها، أو مصابين لا أحد يبلسم جراحهم، أو نازحين في مخيمات سيّدها البؤس، أو لاجئين تذبحهم سكاكين غربة قريبة، وبعيدة.
الرقة التي لا بواكي لها، تختصر حكاية سورية كلها؛ حكاية بدأت في ربيع عام 2011، وها هي اليوم في شتاء يناير/كانون الثاني 2018، ينتشر الموت في مدنها وقراها. كان السوريون يبحثون عن “النعيم” عندما أعلنوا ثورتهم ذات يوم ليس ببعيد، وأبى العالم (المتحضر) إلا أن يحوّل بلادهم كلها إلى ميادين “جحيم”. الرقة كانت بلاد الخير، ولا تزال بلاد الخير، وهي باقية طالما الفرات يجري.
المصدر : محمد امين – العربي الجديد