م أتخيل وأنا أقبض«مصاري» من السيّاح الألمان من أجل أن أنزل إلى قلب «الهوتة»1 لألتقط صوراً بكاميراتهم، أن يوماً سيأتي على معشوقتي وباب رزقي وموئل الحمام و«الطُّبَن»2 تكون فيه مقبرة للحم الآدمي، وخزّانَ أسرار المجرمين القتلة. الأنكى من كل هذا أنني سأنزل ليس من أجل التقاط صور لجمال الطبيعة وأسرارها؛ وإنما لالتقاط جسد أخي.
صمت عمر، عضّ على شفته السفلى وقطّب حاجبيه محاولاً تدارك دموعه. نهض.
«رايح أجيب الشاي».
احترمت لحظات إنسانيته، وألم التذكّر.
عاد وقد غسل وجهه حاملاً بيده إبريق شاي وأكواب. بادرني بالحديث: «لازم هالصندوق ينفتح. لازم تعرف الناس، كل الناس، اللي يصير علينا.. والكعبة هذا حرام».
عندما كنا صغاراً، كان الأهل يخوفونا من الهوتة والسِّعْلِوَّة 3 التي تسكنها، وكنا نتداول القصص ونجزم ونحلف أحياناً بأننا رأينا السعلوة وهي تدخل أو تخرج من الهوتة. وكان الحمام والطُّبَن يخرج رفوفاً من جوف الهوته ويعود إليها. وكنا نتداول أن الحمام لـ«السعلوة»، ومن يصطاد منه ستعرفه السعلوة وستأتي في الليل لتبتلعه بثيابه.
كنت متمرداً مثل كثيرين بعمر المراهقة. كان عمري خمسة عشر عاماً عندما قررت أن أصطاد من الحمام وليكنْ ما يكون. كبرت الفكرة في رأسي أمام تحدي أقراني. سرقنا حبالاً من أهالينا، وذهبنا إلى مسكن السعلوة. ربطت الحبل إلى خصري من جهة، وإلى صخرة كبيرة من الجهة الثانية. ونزلتُ. وهرب رفاقي باتجاه القرية. نزلت دون أن أنظر إلى الأسفل. عميقاً في جوف الهوتة بدأت أشعر بريح باردة رطبة. فكرت أنها أنفاس السعلوة. أغمضت عيني وتابعت النزول إلى نهاية الحبل. كانت الحمامات تفرّ من حولي، ويفرّ قلبي معها، ولكن ما كان يحفزني ويشجعني هو إصراري على أن أتفاخر بمغامرتي، وأن أكون محط إعجاب بنات القرية. فتحت عيني. ضوءٌ خافت جداً، أكاد لا أرى. وقفت على صخرة ناتئة. سحرني المنظر. جلست أتأمل، وتيار الهواء البارد يجتذبني إلى الأسفل نحو الجوف الأظلم. الآن أرى بيت السعلوة من الداخل: وسيعٌ عميق الجالات والمسارب. من جهة الشرق والشمال جدران مستوية لا نتوءات فيها، ومن الجنوب صخورٌ ناتئة ومغاور، ومن الغرب كذلك.
جلتُ بنظري مرات ومرات مستكشفاً، وأصغيتُ طويلاً إلى خرير المياه من الجدران، وإلى صوت تدفق نهر جارٍ يتناهي إلى سمعي من عمق الدهليز أمامي. لا أدري كم لبثت عندما قررت أن أصعد.
وضعت في حضني «جلاعيطَ» حمام، وبدأت بالتسلق. للأسف، انسحقت الكائنات الصغيرة ما بين ضغط جسمي والحائط، وسال دم على ثوبي وساقيّ.
بينما كنت أقترب من الوصول إلى فوهة الهوتة، أخذت أسمع لغطاً وأصواتاً كثيرة. بدأتُ بفكّ الحبل عن خصري، وأنا أغمض عيني وأفتحهما ليتأقلم بصري مع ضوء النهار. هناك على مدّ النظر كان أهل القرية مجتمعين، أطفال ونساء ورجال. لم يقترب أحد. فككت الحبل، وسحبته خلفي. اتجهت صوبهم. تراجع كثيرون، وهرب الأطفال. وحدها أمي ركضت باتجاهي، وعندما رأت الدم على ثيابي أغمي عليها. ووقع عليَّ أن أتحمل لسعات عقال أبي على مغامرتي.
تفقدتني أمي بعد أن استرجعت وعيها في كل أنحاء جسدي، وأشاحت الفتيات بأبصارهن بعيداً عندما رفعت أمي ثوبي لتتأكد أن السعلوة لم تأكل عضوي.
مشت القرية كلها معي وأنا أسمع أحاديثهم عن البلاء الذي سيعمّ القرية بسبب اقتحامي بيت السعلوة، واعتدائي على حماماتها. أقسم بالله أكثر من عائلة هجرت القرية خوفاً.
كان ذلك صيف 1990.
هذه أول مرة، حسب الجميع، ينزل أحد إلى جوف الهوتة. أيام ويتحول غضب أبي إلى مفاخرة. وشرع الناسُ ينسجون حكايات لم أحكِها. حكايات عمّا رأيت، وعما دار بيني وبين السعلوة، وشكلها، وعيونها التي هي بالطول، وبيتها من الداخل، وفراشها المكون من عظام آدمية.
هناك دائما مرة أولى لكل شيء، وهكذا تماماً هي الثورة: يجب أن ندخل إلى الهوتة، هوتة النظام و«التنظيم» (داعش)، وكل من هم على شاكلتهم. صدقني ما في سعلوة، السعلوة هي فقط خوفنا.
لم أنقطع عن الهوتة والسياح سوى للدراسة، ثم لخدمتي الإلزامية. أصبحت الهوتة مصدر رزقي من خلال الخدمات التي أقدمها للسياح.
لم أكن أعرف أن هذا الجمال سيتحول إلى مقبرة، وأن الحمام سيأكل اللحم الآدمي! أتصدق أن الحمام يأكل اللحم الآدمي؟
أول من قام برمي جثثٍ في الهوته كان فيصل البَلّو، أمير جبهة النصرة في سْلوك، وذلك يوم 18/9/2012 (صارَ من الدواعش اليوم، بعد أن اعتقلوه لشهور بتهمة السرقة. هو أمير مكتب العشائر الداعشي حالياً). أتذكر جيداً. لم نصدق وقتها. كانت اثنتا عشر جثة لعناصر من جيش النظام، قتلوا على حاجز«بير عاشق»، شرقي تل أبيض.
بعد أن ذهب فيصل ومجموعته، نزلت وثلاثة أشخاص آخرين. لم تتوقف على الحواف الداخلية للهوتة سوى جثتان؛ الأولى على عمق حوالي عشرة أمتار، والثانية على عمق خمسة عشر متراً. وفي الليل أخرجناهما ودفناهما بصمت وسرية.
سيطر تنظيم الدولة عملياً على تل أبيض بداية تموز عام 2013، عندما خُطف أعضاء المجلس المحلي للمدينة. وبدأ مسلسل يومي لرمي الجثث والأحياء. في هذه الفترة انتسب أحد إخوتي لتنظيم الدولة. قال ذلك وأشار إلى زاوية الغرفة حيث جسد رجل نحيف، جلدٌ على عظم، أشيب الشعر تماماً، عيناه غائرتان وساقاه كساقي طفل أصابه جوع مديد.
أذكر تاريخ ذلك اليوم، الرابع عشر من تموز 2013. عُيّن أخي في «الحِسْبَة» في سلوك، وهي أول حسبة للتنظيم في سوريا كلها، وصار مقرباً من أبو ياسر العراقي، الأمني الأول في تل أبيض. بقي أبو ياسر هذا في وظيفته منذ أواسط نيسان 2013 وحتى انتقاله إلى الرقة في الأيام الأخيرة من العام. وكان مسؤولاً عن عمليات خطف واغتيال النشطاء ومنتسبي الجيش الحر والتجار وأي شخص يشتمّ منه أنه يعارض التنظيم، وكان مكانه المفضل لإخفاء أجساد الأحياء منهم وجثث الأموات هو الهوتة. هذا «الرجل»، وأشار إلى أخيه، «هو ذاكرة الهوتة، ولكن لا ذاكرة له الآن كما ترى. ورحْ أحكيلك قصته بعد شوي».
تصدّق.. أكثر من ثلاثة ألاف جثّة لسوريين.. علويين، وسنّة، ومسيحيين، وأكراد، ويزيديين، ومن سلمية، ومن عفرين، ومن السويداء. من مقاتلي الجيش الحر، ومن عساكر نظام، ومن «أخوة المنهج» في جبهة النصرة، وكل من يعارض.. سوريون، كلهم سوريون. ألقيتْ أجسادهم وجثثهم في بيت السعلوة.
السعلوة الحقيقية هي داعش.
إحدى المرات، وعلى ما أذكر كان ذلك في أواخر تموز 2013، جاء أبو أنس العراقي إلى بيتنا كي يصطحب أخي، وكان معه مسلحون جالسين في صندوق سيارة البيك-أب يحيطون بأربعة شبان من كتائب أحفاد الرسول التابعة للجيش الحر. كان الأربعة معصوبي الأعين ومكبلي الأيدي. عندما عاد أخي، روى التالي: نقلناهم نحو الهوتة، توقفنا بأمر من أبو أنس العراقي وخَلَف الذياب «أبو مصعب» (الأخير كان أمير التنظيم في تل أبيض) على بعد عشرين متراً من الهوتة. وجهوا المختطفين نحو الهوتة بعد أن فكوا القيود، وتركوهم معصوبي الأعين. قرأوا عليهم بياناً ارتجلوه بالإعفاء عنهم من قبل أبو بكر البغدادي نفسه. وطلبوا منهم أن يركضوا بأقصى سرعة، وأن يعدوا للمائة قبل أن يزيلوا الأعصبة عن عيونهم. صدَّق المخطوفون الأربعة، وركضوا، ليقعوا بعد خطوات في بيت «السعلوة» وسط ضحكات الدواعش وقهقهاتهم.
بعدها بأيام قليلة أحضر أبو ياسر العراقي، وأمير الحدود مصطفى العمر، الملقب بـ «التمساح»، وعبد العزيز العمر «أبو سليمان»، أمير الشركراك، وخلف الذياب «أبو مصعب»، مجموعةً من أكراد تل أبيض. ثمانيةٌ، خمس جثث، وثلاثة أحياء، وتم رميهم. أما التهم فهي أي شيء من العدة المحفوظة لديهم، مثل الردة، ومعاداة الدولة، و الزنا، والإلحاد، وسب الذات الإلهية، والفساد في الأرض، و العمالة، وكونهم ناشطين، وصحوات، و«جيش كر»، وبككه، وأحفاد إبليس، وحتى إعلاميين.. لمجرد أنهم إعلاميين. دكانٌ كبير رفوفه ممتلئة بالتُهم.
أكثر من أُلقي في جوف الهوتة هم من شباب الرقة، وكثير ممن جرى رميهم لم يكن من المسموح معرفة أسمائهم، وعلى الأغلب لا يحضر رميهم سوى كتيبة التماسيح التي يقودها أبو ياسر العراقي.
مع الزمن وكثرة الجثث فاحت روائحٌ قاتلة، تصل إلى مسافة كيلومترات. فأحضر التنظيم أربعة عشرَ صهريج نفط خام من دير الزور، وشاحنتي قلاب تحملان أكثر من 300 جثة، وألقاها كالقمامة وصب فوقها النفط في فوهة «الهوتة». وكانت موقدة كبيرة استمر دخانها ونارها عدة أيام. وامتلأ جو المنطقة برائحة النفط واللحم المحترق. على بعد كيلومترات كثيرة كان بإمكان المرء أن يشمّ الرائحة.
لم يدم شهر العسل بين أبو ياسر وكتيبته وبين أخي طويلاً. فقد عرف أخي أن الصناديق التي يحملها إلى الحدود التركية ليست سوى أثار منهوبة تُباع لخواجات، ولم يكن الخواجات خبراء عسكريين كما أوهموه، بل تجار آثار. وعرف أخي أن «المهاجرين» الذين يقيمون مقراتهم فوق التلال إنما كانوا ينبشون عن آثار البلد ويتاجرون بها.
بث أخي شكواه لعدد من أصدقائه في التنظيم، فقرروا أن يرفعوا شكواهم إلى «أمير المؤمنين»، ولكن الأخبار وصلت إلى أبو ياسر. عندها قام أبو ياسر بحملة اعتقالات شملت الجميع، بمن فيهم أخي الذي همس في أذن زوجته: سيرموننا في الهوتة!
كانت الساعة العاشرة من صباح 12/7/2014. ركبت «البيك آب» وتوجّهتُ إلى بيت للبدو الرحل غير بعيد عن الهوتة، ومن هناك رحت أراقب. وفعلاً لاحتْ من بعيد ثلاث سيارات باتجاه القبر الذي لا يشبع. تتقدم السيارات سيارة أبو ياسر العراقي. أعرفها. توقفت السيارات عند الهوتة مدة لا تتجاوز نصف الساعة، وغادرت. ما إن غابت عن النظر حتى كنت على مدخل الهوتة. وقفت أصيخ السمعَ علّني أسمع صوتاً أو أنيناً، ولكن صفير الريح لم يمكنّي من سماع أي شيء.
قدتّ السيارة مسرعاً إلى سلوك. أحضرت عدة بكرات حبال، ومجموعة أبيال و«جوب» حمّالة (طبقتان من اللباد معدتان بصورة خاصة لحماية ظهور الحمالين من أكياس القمح والشعير التي يحُمّلونها…)، ورجعت إلى الهوتة. ربطت الحبل بمقدمة السيارة، لبست الجوب، وحملت بيلاً بيدي وأخر عضضت عليه بأسناني، وثالث في جيبي، وانحدرت. أنينٌ مكتوم قادني إلى أول شخص على عمق ثلاثين متراً حسبما أقدر. ركّزتُ ضوء «البيل». كان وجهه للأسفل وشلال دم ينحدر من رأسه. مددت يدي لأقلبه وأرى وجهه، ولكنه سقط في الفراغ المعتم العميق. غير بعيد ، أمتاراً إلى الأسفل، كان هناك شخص آخر. عرفت من ثيابه إنه أخي. نزلت إليه. ربطته على «الجوب» الذي على ظهري. وبدأت أصعد وكأن وزنه ليس سبعين كيلو غراماً، بل كأنني كنت أحمل كيساً من ريش. صعدت وصعدت. أقدّر أنها أكثر من أربعين متراً. وفي الخارج أنزلت جسد أخي. أتاني إحساس أنه حي. عصفٌ من أفكار يضجّ في رأسي: إلى أين سآخذه؟
دون وعي وضعته في صندوق الشاحنة وانطلقت نحو الحدود التركية عبر الطرق الفرعية، وصلتها عند المغرب. ومن هناك، وبمساعدة أحد المهربين اجتزنا الحدود، ومنها إلى المستشفى.
بعد سبعة عشر يوماً قالوا لي إنه سيحيا، وإنه مصاب بالشلل من خصره وما تحت، وفاقد للنطق وللذاكرة. وها هو كما تراه، لم يشفع له انضمامه للتنظيم. ممنوع أن تنظر في جوف السعلوة المظلم، وإن ْتصادف ونظرتّ، فهكذا هو مصيرك.. وأشار إلى أخيه.
المصدر : الجمهورية
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.