تبدو الرقة قد انتقلت إلى مرحلة جديدة من اللايقين إثر انتهاء عمليات “التحالف” العسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، بعدما تكللت، ما بين صيف العام 2015 وخريف العام 2017، بطرد التنظيم وتفكيك بناه العسكرية والأمنية والإدارية في المحافظة. غموض مصير الرقة يتعزز بغياب أي دور لأهلها، عسكرياً أو أمنياً أو سياسياً أو إدارياً، وتحولها إلى منطقة يباب سياسياً يديرها التحالف بأيدٍ كردية.
غياب أهل الرقة عن أي دور فعلي في كل ما يجري لهم وعلى أرضهم، يقابله ضعف وتردد في سلوك قوى المعارضة الرسمية ودول إقليمية ذات مصلحة في الشأن السوري، بالإضافة إلى غياب كامل حتى الآن للنظام السوري. غياب هذه الأطراف الفاعلة يبدو مرتباً، ما يعني وجود صيغة ما من التفاهم الضمني بينها، كل من منظوره ولحساباته الخاصة، على ترك الرقة في عهدة “التحالف” وأدواته على الأرض إلى زمن مقبل قد ترتسم حدوده في المحصلة النهائية لمسارات الحل السياسي الموكلة إدارتها إلى موسكو.
اندحار تنظيم “داعش” في الرقة ونهايته الوشيكة في عموم سوريا، يفتح الباب أمام المجتمعات المحلية التي حكمها التنظيم لوضع جردة حساباتها الخاصة وفتح الملفات الشائكة التي فتحها انهيار واحد من أكثر التنظيمات غرائبية في تاريخ المنطقة، سواء في إيديولوجيته المعلنة أم في تركيبته البشرية أم سلوكاته اليومية. ملفات ما بعد “داعش” هذه، لا يُرجح أن تضغط على أي طرف خارج هذه المجتمعات، بل الأرجح أن تكون معالجتها نوعاً من مسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق هذه المجتمعات.
انهار “داعش” مخلفاً مصير آلاف المخطوفين والمتخفين قسراً دون إجابة؛ من هؤلاء مقاتلين في الجيش الحر وناشطين مدنيين سلميين وأفراد ارتكبوا مخالفات متنوعة من منظور التنظيم؛ فلا التنظيم معني بكشف مصيرهم، إذ صنفهم أعداءً، ولا “أعداء” التنظيم من قوى الأمر الواقع معنية بشأنهم لاعتبارات تموضعها السياسي العام كموجة ثانية من الثورة المضادة القائمة في سوريا، مُحفزةً ومسوغة ومُغطاة محلياً ودولياً باعتبارات الحرب على الإرهاب.
ملف النازحين والمُهجرين يشكل التحدي الأكبر والأوسع نطاقاً من الناحية البشرية أمام مجتمع الرقة نظراً لحجم المتضررين منه وشدة تضررهم، إذ تُشير تقديرات محلية إلى أن أكثر من 95 في المائة من سكان المحافظة هجروا بيوتهم وأراضيهم في مرحلة ما بصورة مؤقتة أثناء الأعمال العسكرية، وأن أكثر من 75 في المائة من السكان لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم في المدى المنظور، إما بسبب دمارها الكلي أو بسبب الألغام المزروعة فيها، أو نظراً لطبيعة وسياسات قوى الأمر الواقع الحالية.
ملفات المختطفين والمغيبين قسراً من جهة والنازحين والمُهجرين من جهة ثانية لا تنفصل عن ملفات قانونية وحقوقية تركها التنظيم خلفه بوصفها ألغاماً اجتماعية وسياسية. إذ كان التنظيم قد صادر أملاك وأرزاق آلاف المختطفين والمُهجرين والنازحين وباعها أو منحها لمقاتليه ومناصريه. الأمر الذي سيخلق بلا شك منازعات بينية لا يبدو أن ثمة في الأفق آلية لمعالجتها وتلطيف نتائجها على النسيج المجتمعي المحلي.
ملفا الألغام و”التعفيش” يبدوان في هذه اللحظة ملفاً واحداً. لقد حصدت الألغام خلال أكثر من شهر 122 شخصاً من أبناء المدينة الذين عادوا لتفقد بيوتهم وممتلكاتهم. وهو عدد كبير له دلالة خطيرة قياساً إلى العدد الضئيل لمَنْ خاطروا بالعودة إلى بيوتهم في هذا التوقيت، ومعظمهم ممَنْ نزح إلى الأرياف القريبة بانتظار جلاء معركة السيطرة على المدينة. وبينما لا تزال عمليات سلب ونهب بيوت الغائبين جارية حسب ما ينشر صحفيون مواطنون بشكل يومي، فإن تحليلات هؤلاء بدأت تُلقي بظلال من الشك حول حقيقة هذه الألغام ودورها في إعاقة عودة السكان إلى بيوتهم ما دام ثمة ما يمكن تعفيشه. ويبدو أن الأمر تجاوز الإشارة إلى وجود عمليات تعفيش ممنهجة ليبلغ حد التصريح بخطة واسعة النطاق مكرسة لرفد المجهود العسكري لمليشيات “قوات سوريا الديموقراطية” بشريان اقتصادي تحققه عمليات النهب اليومي وتفتح لها أسواقاً في “منبج” و”رأس العين”.
وتُشير تقديرات محلية إلى 4 آلاف شخص، من مقاتلين ومتعاونين مدنيين وأسرهم، من عناصر تنظيم “داعش” والمتعاونين معه، قد انتقلوا ضمن صفقة تسليم الرقة للمليشيات الكردية إلى ريف الرقة الشمالي الخاضع لسيطرة “قسد” منذ صيف العام 2015، فيما تسلل البعض منهم إلى ريفي حلب وإدلب الشماليين ونجحت أعداد أخرى في الوصول إلى تركيا. وكان معظم هؤلاء قد خضع لما يشبه دورة إعداد نفسي وعقائدي مكثفة بالتزامن مع ظهور بوادر سقوط التنظيم عسكرياً هيأتهم لانحلال بنى التنظيم وفقدان الروابط التراتبية القائمة وقتها مع الاستعداد لمرحلة جديدة من العمل. ما يعني أن تفكك بنية التنظيم لم ولن تلغِ ما يشكله هؤلاء من مخاطر ومن أدوار محتملة في مراحل مقبلة.
وتُشير تقديرات مبينة على المشاهدة العيانية أن حجم الدمار الذي لحق بالبنى التحتية والمساكن والأملاك الخاصة في الرقة يتراوح بين 90 إلى 100 في المائة. ويرى البعض، من وجهة نظر منطقية بحت، أن معالجة الملفات المذكورة سابقاً لا بد وأن تمر عبر سياق أشمل يتمثل في إعادة الإعمار المادي، التي يُفترض أن تنطلق مع أو بانتهاء عملية سياسية شاملة. وبالتالي، فإن عملية إعمار الرقة، التي تنطلق من الصفر، هي ما ستفضي إلى معالجة ملفات المخطوفين والمغيبين وضحايا الألغام ونهب الممتلكات وعودة النازحين واللاجئين. لكن أحداً لا يوضح كيفية أو آلية حدوث ذلك، إلا إن كان القصد هو مقايضة الإعمار المادي بالتغاضي عن بعض أو معظم هذه الملفات.
المؤشرات السياسية الحالية سواء في ما يتعلق بالوضع في سوريا أو في الجزيرة السورية على نحو خاص، وهي المنطقة التي تخضع اليوم بمجملها لسيطرة “التحالف الدولي” والمليشيات الكردية، لا تُنبئ بما يبشر بقرب عملية إعادة إعمار من أي مقياس وعلى أي صعيد. والأرجح أن مستقبلها سيبقى معلقاً بإرادة الولايات المتحدة، القوة الأساسية في “التحالف الدولي”، وسياساتها التي لا تتوفر مفاتيح لقراءتها على المدى الطويل، في هذه المرحلة المتسارعة في تقلبات حوادثها ومساراتها.
المصدر : المدن