الرقة تذبح بصمت
تتشابه البدايات في معظم الحكايات، ومعظم النهايات تفضي إلى الفرج، إلّا بدايات الأعوام ونهاياتها في الرّقّة كانت تختلف من عامّ لعامّ منذ عامّ ٢٠١٣، العام الذي شهد تحرير الرّقّة بشكل كامل من سلطة النظام الأسديّ، لتصبح “عاصمة التحرير”، وما عاشه أهلها من فرحة بالنصر والخلاص من سياط الجلاد الأسدي، وبداية لنشوء التجمعات المدنّية، والسلطات المحلية، عمل خلالها شباب الرقة بجد لإنتاج مثل تحتذي به المدن الأخرى حال تحريرها، إلا أنّه كان للغدر اليد الطولى بقتل أحلام أهل الرقة منذ بداية عامّ ٢٠١٤، إذ دخلت الرّقة حقبة جديدة من القمع وتقييد الحُرّيّات، بسيطرة تنظيم داعش الإرهابي على المدنية، لتصبح “عاصمة خلافة التنظيم” بقيادة أبو بكر البغداديّ، ذاقت الرقّة خلالها أشدّ أنواع الويلات، والاضطّهاد، والعزلة عن المحيط، حيث كُمَّت الأفواه، وحوربت الآراء، وأسروا حريّة التحرير، شوهوا التاريخ، وغيّروا الحقائق، غيّبوا الأجساد في السجون وتحت التراب، ولم يبق للرقة إلا نحيب الأمهات، ثلاثة أعوام لم تنقضِ إلّا لتكون بداية جديدة، وحقبةٍ لا ندري إذا كنّا نراها قريبة الانقضاء، ويرونها بعيدة، فمع بداية عامّ ٢٠١٧ دخلت قوّات سوريا الديمقراطيّة “قسد” الرّقّة ليس من أبواب التاريخ، إنّما من أبواب القهر والعبور على جسور الموت التي كانت دعائمها رفات شهداء الرقّة المدنيين، دخلوها بعد أن دسّ تنظيم داعش قبل تسلميه المدينة بذور الموت في ترابها، وفي منازل أهلها، تحت فرشهم والوسائد، وبين ملابسهم في الخزائن، لم يتوقف الأمر على ممارسات التنظيم، وما خلّفه من ألغام زرعها بحجّة مقاومة القوّات المهاجمة، بل كان ما الحقته ميليشيا “قسد” بدعم من طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة، الذي لم يتوانَ عن قصف منازل المدنيين ومحالهم بحجّة تواجد عناصر التنظيم، ليحيلوا الرقّة أرضًا لم تعد تصلح لحرث أو نسل، مخلّفين بذلك أكبر عمليّة تهجير شهدتها الرقّة منذ تحريرها من قوّت الأسد، فتوزع أهلها نزوحاً إلى مناطق النظام، أو لّجوءً إلى الأراضيّ التركيّة ، أمّا ما تبقّى فعبر إلى المخيّمات التي وصفت بـ “مخيمات الموت”، والتي تفتقد إلى أبسط مقوّمات الحياة الأساسية، والمعاملة الحسنة، ومنهم آخر لقيَ حتفه ومنهم من ينتظر، بسبب الألغام التي تزهق أرواح المدنيين ، حيث يذهب ضحيتها ٣-٤ أشخاص يوميّاً، وكلّ ذلك يندرج تحت تصرّفات وأفعال تهدف إلى إخراج أهلها ممّن بقيَ منهم، أو عدم الرّغبة بالعودة إليها ممّن نزح منها لغاية انتهاء العمليّات العسكريّة فيها، لتتكشف في خضمّ هذه الأحداث أثناء عمليّة السيطرة على الرقّة، عمليةٌ وصفتها هيئة الإذاعة البريطانيّة بـ “سرّ الرقّة القذر”، وهي صفقة سريّة سمحت لمئات المقاتلين من مسلحيّ تنظيم داعش وأُسرهم بمغادرة الرقّة تحت إشراف التحالف الدوليّ وميليشيا “قسد”، ، إذ غادر مسلحو التنظيم إلى أجزاء مختلفة من أنحاء سوريا، وإلى تركيا وفقًا لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
نعم، سرّ قذر تمثّل من خلال عمليّة استلام وتسليم عُقِدَت بين تنظيم داعش الذي لطالما كان شعاره “باقّية وتتمدّد” وميليشيا “قسد” والتي يشكّل الأكراد النسبة الأكبر منها، والذين يسعون لإنشاء دويلة لهم في الشمال السوريّ ، وذلك من خلال التغيير الديمغرافيّ للمدينة بتهجير أهلها. السرّ القذر، الذي كان جوابًا لكثيرٍ من السائلين عن مصير عناصر التنظيم، وسرّ اختفائهم المُفاجئ وبدون أيّة مقاومة تُذكر.
واليوم وبعد مرور شهرين على سيطرة قوّات سوريا الديمقراطيّة على الرقّة بشكل كامل، والذي أُعلن بتاريخ ١٧ تشرين الأول ٢٠١٧، يتردد السؤال: كيف هو حال الرقّة؟ أبنيةٌ ومنازل مدمّرة، أصبحت أشبه بأطلال تُحاكي غياب أهلها الذين يتناقصون يومًا بعد يوم، حيث بلغ عدد المُهَجّرين عنها نحو ٤٥٠ ألف مدنيّ منذ بدء المعارك، عاد نحو ٣٠ ألفًا منهم، لتفقد ما بقي من أنقاض منازلهم، ليقضيَ قسم منهم نتيجة تفجّر الألغام المدسوسة في الأرضيّ، أو التي وُضِعت في منازلهم، مع افتقارٍ الجهات المختصّة في نزع الألغام، للقدرة على تنظيف المدينة من تلك الألغام، في حين لاتزال المدينة تعاني قلة الماء، وكذلك الكهرباء التي ليست بأفضل حالّ ، ناهيك عن تفشيّ الأمراض والأوبئة وذلك بسبب وجود الجثث تحت الأنقاض، والتي لم يتم سحبها، في ظلّ غياب المنظمات الدوليّة وموظّفوها الذين لم يدخلوا الرقة حتّى الآن.
اليوم ونحن على أعتاب بدايات عامّ ٢٠١٨، هل ستشهد الرقّة بدايةً ككلّ عامّ، في ظلّ غياب النهايات السعيدة، والتي يبدو وأنها انتزعت حتّى من مخيّلات أبنائها.