الصفقة التي أطلقت عليها وسائل إعلام عالمية اسم “سر الرقة القذر”، والتي قضت بإخراج مئات من عناصر “داعش” مع عائلاتهم من مدينة الرقة قبل دخول “قوات سورية الديموقراطية” إليها، لم تشمل مئات المساجين الذين كانوا يقبعون في سجن التنظيم في المدينة، كما أنها لم تشمل الحصول على معلومات حول مصيرهم بعد تحرير المدينة.
الصفقة تمت بصفتها إجراء ميدانيا سريا. الـ “بي بي سي” حصلت على شريط صور الشاحنات التي أقلت العناصر وعائلاتهم، موثقة بشهادات السائقين وبشهود عيان. لكن صمتا تاما أبدته الجهات المفاوضة (ونفى التحالف الدولي مشاركته في الاتفاق). الأرجح أن المقاتلين انتقلوا إلى مناطق نفوذ “داعش” في دير الزور، أو إلى البوكمال قبل دخول النظام إليها مؤخرا. البوكمال التي نقل حزب الله مقاتلي “داعش” من مناطق على الحدود اللبنانية السورية إليها قبل أشهر، في صفقة لم تخلُ بدورها من غرابة موازية.
والحال أن العالم كله على ما يبدو يستعين بتنظيم “داعش” ليُصرف فيه شروره وضغائنه الخاصة. ففي الموصل جرى إقفال المدينة القديمة على مقاتلي التنظيم ولم يُترك لهم خط انسحاب، على ما تقتضي بديهيات حروب المدن، وكانت النتيجة دمارا بنسبة 90 في المئة أصاب الأحياء التاريخية للمدينة، وها هي اليوم الموصل مدينة غير قابلة للحياة.
لكن انعدام توازن عالم الحرب على “داعش”، وإضماره أسرار حروب قذرة موازية، وإن أفضى إلى القضاء على التنظيم الإرهابي، إلا أنه يُخلف في جريانه كوارث لا يبدو أن المنتصرين، وما أكثرهم، مكترثون لها. المعتقلون في سجون “داعش” الذين لم تكترث “صفقة الرقة القذرة” لمصائرهم خلال مفاوضتها التنظيم الإرهابي على تأمين خط انسحاب لعناصره من المدينة المدمرة، أعدادهم بالمئات. هؤلاء انضموا إلى عشرات آلاف السوريين من مجهولي المصائر. أمُّ المصور اللبناني المختطف لدى التنظيم في الرقة سمير كساب، لم يُفكر أحد بأنها تنتظر جوابا عن مكان احتجاز ابنها. الصفقة كان من المفترض أن تكون سرية، وأن لا نعرف شيئا عن حقيقة أن ضحايا التنظيم الفعليين ليسوا جزءا منها. إعلان النصر على التنظيم في الرقة كان أهم من أن يكترث المنتصرون لأم سمير، ولمئات الأمهات السوريات المنتظرات هزم التنظيم لكي يعرفوا مصائر أبنائهم.
اذا أراد المرء أن يُعدد المنتصرين في الحرب على “داعش” فلن تكفي عجالة في عرضهم. التحالف الدولي والحكومات العراقية والسورية واللبنانية. والأكراد بجناحيهم السوري والعراقي، وفلاديمير بوتين وقاسم سليماني، والحشد الشعبي وحزب الله، ويمكن للمرء أن يعثر على منتصرين آخرين إذا ما أطال التأمل! كل هؤلاء انتصروا ويريدون أن يستثمروا انتصارهم في السياسة. أما المهزومون، فلا يبدو أن “داعش” في صدارتهم. هل يعقل أن يكون أهل المدن المدمرة هم من انتصر؟ سكان المخيمات على أبواب الشتاء القارس؟ أمهات الرجال مجهولي المصير؟ المهزمون يفوقون المنتصرين بأعدادهم، وبوقع الهزيمة على نفوسهم. فهل يعقل أن نقول أن الموصل التي يفوق عمر أحيائها المدمرة 800 عاما انتصرت على رغم أنها مدمرة بنسبة 90 في المئة، في حين أن التنظيم الإرهابي الذي لا يبلغ عمره أربع سنوات انهزم؟
ثم أن علينا أن نفكر في طبيعة التنظيم لنحدد شكل الهزيمة التي نالته. فـ “داعش” تنظيم زمني وليس جسما اجتماعيا راسخا حتى يتم هزمه على نحو مؤكد. هو عارض أصاب مدنا وعشائر وجانحين من كل العالم. عارض يمكن أن ينام ثم يعود ويستيقظ في لحظة سياسية تتيح له الاستيقاظ. هو تماما خيار من أصابتهم الهزيمة، سواء في مدنهم في العراق وسورية، أو في بلاد الغرب التي فشلت في علاقتها بشذاذ أفاقها. هزيمة “داعش” ليست مؤكدة، أما هزيمة أهل المدن المدمرة فلا مجال للشكوك حولها.
الشاحنات التي نقلت مقاتلي التنظيم الإرهابي من الرقة إلى دير الزور أو إلى البوكمال لم يُفكر مشغلوها في أنهم ينقلون العناصر إلى مدينة أخرى سيكون مصيرها الدمار أيضا، وأن ناجين من التنظيم سينقلون ربما إلى مدن أو صحاري أخرى، وأن دورة التنظيم ستدور مجددا على مزيد من الاحتقان السياسي والمذهبي الذي يحف بالنصر المدوي وبالهزيمة المدوية. فأي منطق يقول أن تنقل عدوك إلى مدينة أخرى لا تلبث أن تلحقه إليها لتخوض حربا ضده فيها؟ وهل فكر من عقد الصفقة في أن هؤلاء العناصر، وبعد أن كانوا بين ركام الرقة سيتسربون إلى الصحراء حيث لا يمكن تعقبهم؟ النصر لم يتح لأصحابه لحظة تأمل، وهم مثلما لم يكترثوا للمساجين لدى “داعش” لم يكترثوا إلى أن التنظيم سيذوي في الصحراء ليعود وينبعث منها على شكل مسخ مخصب ومحصن أكثر، ذاك أنه خبر عثراته السابقة، ولن يقع بمثلها مجددا.
المصدر : حازم الامين – الحرة