قيس قاسم – الحياة
من تحرير مدينة الرقة كفعل عسكري/ سياسي على الأرض، يمكن تقدير قيمة فيلم «مدينة الأشباح» أكثر، باعتباره نصاً سينمائياً هو أبعد بكثير من مجرد محاولة آنية لتسجيل جانب من حياة المدينة السورية التي أقام التنظيم الإرهابي «دولته» فيها، وتقل أهميتها وتشحب معانيها بنهاية الحدث!
على العكس، أضفى تخليصها من براثن «داعش» إلى منجز الأميركي ماثيو هينمان صاحب «كارتل لاند» المرشح لجوائز الأوسكار، بعداً إضافياً بوصفه وثائقياً سبق الحدث باقتراحه توثيق جانب من عمل وحياة شباب سوريين بادروا لإصدار مطبوع ومنصة «الرقة تذبح بصمت» أولاً، ولأنه ثانياً ذهب لعرض مصائر وبطولات فردية كان من اللازم عرضها وتثبيت حقيقة وجود وعي قادر على التمييز بين مخاطر «داعش» وبين معارضته للنظام، بمعنى انتباهه إلى الخطوط الفاصلة بين معارضة نظام سياسي وبين القبول بقوى ظلامية همجية؟
جمع بين موقفين
هذا الجمع بين الموقفين هو ما انتبه إليه الوثائقي واشتغل عليه كثيراً توافقاً مع رؤية صاحبه لـ «موقع» يجسد ذلك الفصل بوضوح ولهذا وحين تزامنت عروض الفيلم (الأوربية بخاصة) مع اقتراب هزيمة «داعش» في الرقة وبعدها، بدا متمسكاً بخياره السينمائي، في أن يكون فيلماً عن مدينة منتهكة، وثّق مرحلة ظلامية مرت بها، وأثناءها تعرض سكانها لضغط شديد من قوتين، احتاج عرضهما على الشاشة إلى رؤية واضحة واستعاب للمشهد السوري. ولعل هذا أكثر ما يلفت في عمل هينمان، إلى جانب عرضه تفاصيل الحياة في المدينة والبلاد، من خلال مجموعة صغيرة رافقها وقدم جوانب غير معروفه عنها من قبل، معايناً في الوقت نفسه التحولات الدراماتيكية في مواقف أفرادها منذ انطلاق الحراك المدني في الرقة حتى بروز منصتهم كواحدة من الصفحات الاعلامية المستقلة، الأكثر شجاعة في التصدي لداعش وكشف جرائمه أمام العالم. تأسيساً على كل تلك التفاصيل انطلق «مدينة الأشباح» من مكان بعيد عنها، من قاعة في مدينة أميركية تسلم من على منصتها المتحدث باسمها «الجائزة العالمية لحرية الصحافة» امتناناً واعترافاً بما قاموا به وتثميناً لجهد جماعي دفعوا أثمانه غالياً، لتقصي بعضها عاد الوثائقي المتميز مثل بقية الاشتغالات الغربية المستوفية في الغالب شروط انتاح الفيلم السينمائي، بوضوح صورته وحسن انقائه المشاهد وبحثه الجدي، إلى البدايات مستعيناً على نقلها بما صوره من قبل فريق «الرقة تذبح بصمت» بكاميرا ديجيتال بسيطة وتحت ظروف قاهرة، مجرد التفكير بالشروع بها يتسحق أكثر من جائزة.
على الشخصيات الناشطة لتحرير الموقع الالكتروني على الـ «نت» وعلى تنقلاتهم المكانية من سوريا فتركيا ثم ألمانيا تم تشييد معمار عمل سينمائي لم يرتهن للواقع فحسب، بل مال إلى ترك مساحة للتعابير الخارجية، بعضها جاء تقليدياً وربما ثقيلاً مثل «شاعرية» تقديم مدينة الرقة الوادعة على نهر الفرات قبل انطلاق الحراك الشعبي فيها، في حين كانت مسارات شخصياته في المنفى التركي والألماني أكثر استقرار وتحفيزاً على المتابعة لما فيها من قوة تعبير عن دواخلهم ورسم الظروف التي قادتهم ليصبحوا معارضين في مرحلتين، الأولى ضد قمع النظام لحراكهم السلمي المطالب بالديمقراطية والثاني الرافض لوجود داعش في مدينتهم وتحويلها إلى مسخٍ مكاني.
لا يحمل «مدينة الأشباح» ادعاءات كثيرة. فهو مع كل قوة مرجعياته السينائمية والبحثية جاء بسيطاً سهلاً مثل طبيعة شخوصه، فأكثريتهم لم يخطر ببالهم أنهم سيصبحون على ما هم عليه اليوم، ناشطون يُعَرضون أنفسهم وعوائلهم لانتقام منفلت، ولم يكن أحداً منهم يعرف مقدار ما في داخله من قوة تُعينه على الاستمرار بالعمل في ظروف قاسية، داخل الوطن وخارجه، لهذا مال الوثائقي وألح في ربط مسار الأحداث الدموية في سوريا بالتجارب الشخصية وكيف أن الكثير منهم، متنت تراجيدية ما مروا به وبأهله، دواخلهم وعززت رغبتهم في عمل لم يمتهنوه من قبل ولم يتعلموه أكاديمياً ما يطرح أسئلة حول طبيعة «الإعلام التطوعي المستقل» ومدى فعاليته في الظروف الاستثنائية التي تعجز الصحافة التقليدية من توصيل الوقائع بالصدقية ذاتها إلى العالم. طريقة عملهم وأدواتهم المهنية تطورت مثل مواقفهم ووعيهم، الذي ارتقى بالتجريب والتدقيق وكيف تحفزت عزائمهم وروح التحدي عندهم تصفحها صانع الوثائقي ببطأ وتأملها بعناية لما فيها من دلالات عميقة تفسر بعض من جوانب الصراع الملتبس على البعيدين منه.
على الحدود التركية مكث الوثائقي ونقل المراحل الأولى لما بعد الرحيل الاجباري من الرقة بعد أن دخلها «داعش» ومطاردته لهم. كل تلك المرحلة تكاد تكون موثقة بأدوات تقنية وفنية بسيطة وحتى بدائية تحسنت بالتدريج وأثقلت تبعاتها كواهلهم. فحتى ذاك المكان لم يعد آماناً بعد تصفية عرابهم وصاحب فكرة مطبوع «الرقة تذبح بصمت» في وضح النهار! ما دفعهم للرحيل أبعد… إلى ألمانيا فيما بقي «المراسلون السريون» يعملون ويزودونهم بالأخبار، التي كان تسريبها يربك «الخلافة» ويزيد من غضبها ورغبتها في التخلص منهم بأي شكل، لأن رعاة ومهندسي دعايتهم لم يصدقوا بوجود أخرى مثلها مضادة لهم تكشف أكاذيبهم وتصويرهم للمدينة المستباحة كـ «جنة» على الأرض وفي واقعها جحيماً.
حرية تعبير
تَركْ الوثائقي لـ «أبطاله» حرية التعبير نفعه كثيراً، لكنه زاد من كم «الشفاهي» فيه ومع هذا ظلت دوماً الصورة واضحة نظيفة ملازمة للحدث وفي أكثر من مكان، مختلفة قطعاً عن سابقاتها كونها وعلى طول الخط نُفذت بتقنيات سينمائية عالية المستوى، كما كانت الملازمة الطويلة لأربع شخصيات رئيسة كفيلة بالتقاط كل تحول يطرأ على المستوى الشخصي والعام، والأكثر مدعاة للاهتمام عرضه التناقض الوجودي القائم بين المهاجر ورافضيه في دول الاغتراب من خلال ملاحقة تفاصيل عملهم السري وانشغالهم التام بما يجري في بلدهم وتفرغهم لمقارعة خصومهم، وبين بطر وتفاهة عنصرية تطالبهم بالعودة إلى وطنهم. قد يكون مشهد المظاهرات السلمية للمهاجرين ومهاجمة العنصريين لها من أقوى التعابير عن سخف تلك الدعوات ولا إنسانيتها. فبينما ينشغل هؤلاء الشباب في عمل شجاع يشبه الانتحار يعامله العنصري المتبطر كدخيل وطفيلي عليه، جاء متيقناً بدافع الحصول على امتيازات مجتمعه المترف! الرغبة في تصغير الواقع السوري ذهبت بالفيلم إلى النهايات الشخصية فصور مقاطع وحالات تدلل عليها مثل ولادة زوجة أحدهم أو لم شمل بعضهم مع عائلته بعد طول غياب، وآخر منهم يرفض حماية الشرطة له في تحدٍ لتهديدات «داعش» التي وصلته إلى ألمانيا.
كل تلك الالتفاتات مهدت لرسم المشهد الختامي لتجربة معاشة مدعاة للتأمل، جسدتها أصوات قوية معارضة، شجاعة حرص الوثائقي الأميركي على تقديمها كما هي من لحم ودم، فيما ترك الباقِي في مكانه الأول يبحث عن سبل ووسائل جديدة يبتكرها بنفسه ليتحدى ويفضح بها قساوة أنظمة ومنظمات إرهابية همجية حولت مدنهم الجميلة إلى «مدن أشباح»!