ريم تركماني – الحياة
حتى بداية حزيران (يونيو) الفائت ومنذ أكثر من ألفي سنة كانت مدينة الرقة السورية موجودة. بعد أربعة أشهر ونصف الشهر، وتلقيها ٢٠ ألفاً من ذخائر التحالف ما بين صواريخ وقنابل وقذائف أودت بحياة ١٣٠٠ مدني على الأقل، تحولت المدينة إلى أكوام من الركام لا يصلح أكثر من ٨٠ في المئة من أبنيتها للسكن. كتب الصحافي عبود حمام بعد أن دخل الرقة إثر إعلان خلوّها من داعش أنه شعر بأنه يدخل القنيطرة المدمرة، مع اختلاف المساحة، وخَلُص، بعد أن شهد حجم الدمار المهول، إلى أن المدينة يجب أن تبقى كما هي شاهداً للتاريخ وأن يتم إعمار مدينة إلى جانبها.
كانت ضربات التحالف على الرقة من الكثافة إلى درجة أن عددها في آب (أغسطس) فقط فاق بعشر مرات عدد ضربات القوات الأميركية في كل أفغانستان خلال الشهر نفسه. كل ثماني دقائق، كمعدل وسطي، كان يطلق على المدينة، خلال شهر آب، قنبلة أو صاروخ أو قذيفة.
هذه الأرقام هي نتيجة بحث وتحقق مستمرين لمنظمة airwars.org (حروب السماء) التي تتخصّص برصد وتقييم الإصابات بين المدنيين نتيجة غارات التحالف الدولي ضد داعش في العراق وسورية، إضافة إلى الضربات الجوية الروسية في سورية بهدف الضغط على هذه الجهات والسعي إلى الشفافية والمساءلة، والمناصرة نيابة عن المدنيين المتضررين.
تعمل المنظمة وفق منهجية رصينة جداً تعتمد على التحقّق من كل التقارير حول إصابات المدنيين من مصادر عدة مباشرة وغير مباشرة، وعلى تصنيف أرقام الضحايا ونشرها وفق نظام تصنيف من خمس درجات يتراوح بين المؤكد وغير المؤكد، وقد أهّلتها مهنيتها إلى أن تصبح المصدر الأول غربياً في الأرقام والتقارير الموثوقة حول ضربات التحالف. كما تراقب وتؤرشف كل ما ينشره التحالف وتتراسل معه في شكل مستمر بخصوص استهداف المدنيين.
توصلت منظمة Airwars إلى رقم ١٣٠٠ مدني توفوا نتيجة ضربات التحالف في الرقة كحد أدنى منذ حزيران، بعد أن بحثت في ٣٢٠٠ حالة وفاة أُعلن عنها في الرقة عبر الوسائل المختلفة، أي أن الرقم الحقيقي على الأغلب هو أكبر من ١٣٠٠، كما أن ٧٠٠ من هؤلاء الضحايا موثقون بالاسم. الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقدر أن ١٨٠٠ مدني على الأقل فقدوا حياتهم في عملية الرقة، ٣١١ تقع مسؤولية موتهم على داعش و١٩١ على قوات سورية الديموقراطية.
يرتفع الحد الأدنى للوفيات بين المدنيين نتيجة ضربات التحالف على الرقة، وفق تقدير Airwars، إلى ٢٠٠٠، إذا عدنا إلى بداية آذار (مارس). وهذا الرقم أعلى من عدد ضحايا عملية التحالف ضد مدينة الموصل والتي هي أكبر من مدينة الرقة وكانت تؤوي عدداً أكبر من المدنيين.
هذا التصعيد غير المسبوق في الضربات أتى تحديداً بعد أن بدأ التحالف إستراتيجية «الإبادة» للقضاء على داعش، والتي قدّمها وزير الدفاع الأميركي ماتيس في نهاية شباط (فبراير) إلى الرئيس ترامب. بعد تسليم الخطة فوراً ارتفع عدد الوفيات بين المدنيين بمقدار ستة أضعاف في الشهر على رغم أن عدد الأهداف التي ضُربت قد انخفض، ما يؤشر إلى ازدياد حاد في عدد الضحايا من المدنيين نتيجة الضربة الواحدة. كما ارتفعت في شكل ملحوظ نسبة الأطفال من الضحايا.
كل هذه الأمور أثرتها في لقاءاتي في واشنطن، في البيت الأبيض وفي الخارجية خلال زيارة مناصرة الأسبوع الماضي، والردود تراوحت بين الإنكار والتأكيد على أن قواعد الاشتباك خُففت خلال حملة الرقة مقارنة بحملة الموصل بهدف خفض عدد الضحايا من المدنيين، وبين الصمت من جانب من لا يد لهم في اتخاذ القرار بأمور التحالف والاكتفاء بضرورة التواصل مع وزارة الدفاع من أجل هذه الأمور، وبين من يعتقد بأن هذه نتيجة طبيعية لحرب ضمن مدينة وبسبب استخدام داعش للمدنيين كدروع بشرية. عندما سألتهم عن عدد الضحايا من المدنيين الذين أقرّ التحالف بهم منذ حزيران، كان جوابهم أنهم أقرّوا بوفاة عشرة مدنيين. الحقيقة أنهم رسمياً لم يقرّوا حتى الآن إلا بخمس ضحايا فقط.
بل إن القائد العام لعمليات التحالف ستيفن تونسيند كتب مقالاً في منتصف أيلول (سبتمبر) في «فورين بوليسي» يتّهم فيه منظمة Airwars بالمبالغة الشديدة في أرقام الضحايا وادعى أن «ضربات التحالف تستهدف فقط الأهداف العسكرية المؤكّدة… وأتحدّى أيّ شخص بأن يجد حملة عسكرية أكثر دقّة في تاريخ الحروب كلها»، بل اتهم «ادعاءات» منظمة Airwars بأنها «تقوّي من قبضة داعش على المدنيين ما يضعهم تحت خطر كبير»، وأن هؤلاء المدنيين لو لم يُحرَّروا من جانب التحالف فإنهم كانوا «سيموتون إما على يد داعش أو من الجوع»، ويمضي الجنرال رافضاً في شكل مطلق أي هدنة إنسانية لأنها «ستقوّي داعش».
وبالتأكيد فإن التحالف رفض دعوة المستشار الإنساني للأمم المتحدة في سورية، جان إيغلاند، إلى هدنة أو وقفة إنسانية في الرقة، وأكد أنه سيرفض أي مقترح يسمح لداعش بإعادة التجمع في المدينة.
وعندما بادر بعض الوجهاء وشيوخ العشائر بوساطة في تشرين الأول (أكتوبر) عبر مجلس الرقة المدني وقوات سورية الديموقراطية تقضي بالسماح بخروج آلاف من المدنيين المتبقين في الرقة وبضع مئات من مقاتلي داعش إلى ريف دير الزور، رفض التحالف المبادرة وأعلن العقيد ريان ديلون، المتحدّث باسم التحالف، في ١١ تشرين الأول، أن التحالف «لن يدعم أي مفاوضات أو تسوية»، على رغم إشارته إلى أن هذه المفاوضات يمكن أن تؤدّي إلى خروج آلاف من المدنيين من المدينة في شكل آمن. كما وردت تقارير برفض بعض الدول الأوروبية أيضاً مثل هذا الاتفاق بسبب وجود المسؤول عن هجمات باريس في ٢٠١٥ ضمن مجموعة مقاتلي داعش الذين كان من الممكن أن يشملهم الاتفاق.
بعد يومين من هذا الإعلان، وبعد بعض الضغوطات واجتماع بعض الوجهاء مع مسؤولين أميركيين في ١٣ تشرين الأول، قبل المسؤولون الأمركيون بغض النظر عن الاتفاق وأصدروا في اليوم التالي بياناً يشيرون فيه إلى التسوية والادعاء بأنها تستثني «الإرهابيين الأجانب». كذلك أشار البيان إلى أنه «نحن لا نوافق على أيّ تسویة تسمح لإرهابیي داعش بالفرار من الرقة من دون أن یواجهوا العدالة، لیعودوا ویظهروا في مكان آخر. إنّ التحالف لا یزال یشعر بالقلق إزاء آلاف المدنیین في الرقة الذین لا یزالون عرضة لأعمال داعش البربریة».
قد تقضي عمليات مثل عملية تدمير الرقة على الإرهابيين، لكنها لن تقضي على الإرهاب. بل إنها، مثل قصف النظام وروسيا، تزيد من حدّة كل الظروف والمعطيات التي أدت إليه. السيطرة الجغرافية على بقعة بعينها وإعلانها دولة هي مجرد تكتيك في مسيرة تنظيم إرهابي وُجد من قبل من دون أن يسيطر على أي بقعة جغرافية، وهو سيغير تكتيكه في المرحلة المقبلة ويستفيد من كل الضغائن التي تغلي في صدور البعض، خصوصاً ضد أميركا، ممن يشاهد كل هذا الدمار. كما ستساهم الطريقة التي ظهرت فيها مشاركة قوات سورية الديموقراطية في العملية وتسرع بعض قواتها في رفع صورة أوجلان فوق خراب المدينة في زيادة التوتر وقسمة المجتمع إلى رابح وخاسر، وهو بالضبط الانقسام الذي شظّى المجتمع العراقي بعد حرب العراق وساهم في نشوء داعش.
في كل اجتماعاتي مع المسؤولين في واشنطن كنت أؤكد أنه لا يمكن أبداً حل الأزمة السورية عبر مقاربة القضاء على الإرهاب، وأن الأهم هو العمل على حل يؤدي إلى معالجة جذور الصراع في سورية، من فقدان للشرعية السياسية ومن طبقات متراكمة من المظالم التاريخية والحديثة عبر إنهاء استخدام العنف ضد المدنيين وإطلاق حل سياسي عادل يبدأ في جنيف، وكذلك عبر مساعدة المجتمع المدني وبنى الحوكمة المحلية التي تعمل على تأمين الخدمات للمدنيين وزيادة مرونة المجتمع في مواجهة المجموعات المتطرفة، وعلى ضرورة أن تتم حوكمة أي جسم مدني جديد في الرقة ضمن إطار القانون السوري، اتباعاً لنهج المجالس المحلية ما سيسهّل عملية شمل الرقة ضمن إطار حل سياسي مقبل، مع امتصاص المخاوف بأن تُدار الرقة ضمن نظام الكانتونات. أغلب من قابلتهم يومئون برؤوسهم مؤكدين أنهم يوافقون هذا الرأي، لكن الأداء الأميركي لا يبدو أبداً أنه يسير في هذا المنحى.
في نهاية أيار(مايو) صرّح وزير الدفاع الأميركي ماتيس رسمياً بأنهم سيستخدمون «تكتيكات إبادة» في معركتهم ضد داعش، وأضاف: «نعتزم القضاء على المقاتلين الأجانب كي لا يعودوا إلى بلادهم فى شمال أفريقيا وأوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا. لن نسمح لهم بذلك. سنوقفهم هناك وندمّر الخلافة». بريت ماكغورك، المبعوث الأميركي الخاص للتحالف، أكد أيضاً أن مهمتهم كتحالف هي «التأكد من أن كل إرهابي أتى إلى سورية سيموت فيها».
ويبدوا أنه بعد أن تُركت داعش لتشكل بؤرة لتجميع هؤلاء الإرهابيين من أنحاء العالم، فإنه لا يهمّ ما إذا كان سيُدفَع ثمن القضاء عليهم وتحقيق انتصارات يحتاجها البيت الأبيض على شكل المزيد من دماء السوريين ومدنهم، وتاريخهم ومستقبلهم.