الرقة تذبح بصمت
راياتٌ نُكِّست، وأخرى رُفعت، بيوتٌ دُمّرت، وشوارع نُسِفت، أقوامٌ هُجّرت وبهم أقوامٌ بُدّلت، وجوهٌ وأحياءٌ غُيّرت ملامحها وما عُرفت، ها هو حال الرّقّة اليوم درّة الفرات، يخرج منها عناصر تنظيم داعش بالشاحنات، وتدخلها مليشيا قوّات سوريا الديمقراطيّة تحت ظلّ أجنحة الطائرات، دخلوها مُعبّدين خطوات احتلالهم بدماء الشهداء المدنيين الذين تجاوزوا المئات، وتهجيرٌ للأكثريّة واستبدالهم بالأقليّات، دخلوها والأنقاض أكبر نسبة قد شكّلت، من غير خجلٍ أو وجل وعلى أشلاء وجثث الشهداء، الذين يتزايدون على قوائم الاحصائيّات، ووسط رائحة الموت التي تسري في شوارع المدينة وأزقتها عُقدت الدبكة في شكل حلقات، وأُنزلت صور قادة التنظيمات، وعُلّقت مكانها صور قادة العصابات، وأُلقيت البيانات، وتعالت الهُتافات، وسُيّرت بعدها حملات التمشيط في البيوت والمحلّات لِتعقِبها عمليّات “التعفيش” والسرقات.
صورٌ فوتوغرافيّة وأخرى التُقطت من الأجواء، حجم دمارٍ هائلٍ حاصلٌ هنا وهناك، منقولٌ على هيئة فيديوهات ومنشورات، درّةٌ عمرها عمر المجرّات مُسحت معالمها، وأخفتها صواريخٌ ملقاة من الطائرات، وأخرى عن طريق القاذفات.
الجثث بالمئات على قارعة الطرق ملقاة، وآلاف من أبنائها المدنيين ممّن استطاعوا النجاة، مشرّدين في المخيّمات، يكابدون ما يكابدونه من مهانة وعذابات وتضييقٍ من قبل الميليشيات.
بلدٌ تتابع عليه الويلات، خطفت من حاراته أصوات الضحكات، شرفاتٌ لطالما كانت عامرةً بالسهرات ما عدنا نسمع فيها سوى صدى الذكريات، بلدٌ هُدِمت فيه بِيَعٌ وصلوات ومساجد سُلبت منها أصوات التكبيرات، بلدٌ تمشي على أرضه الهوينى خشيةً حذرَ المتفجرات، لا ترى فيه إلّا التنظيمات والمنظّمات تتهاوى عليه حقبةً تلوى أخرى يقيمون فيه التشريعات، مُهطعين رؤوسهم عليه ينهشون من أرضه الخيرات، عين أبو جعفرٍ المنصور نامت لا رأت كيف تتهاوى عن سوره اللَّبِنات، وبنات هارون الرشيد في قصرهنّ أصبحن جاريات، وعلى باب بغداد دَنت رؤوس النخلات وتناثر ثمر الرطب منها واليابسات.
مدينةٌ تحوّلت ساحاتها من مراكز ونقاطٍ لانطلاق المظاهرات، وتحقيقًا للحريّات، لتصبح مذبحًا للقصاص وجزّ الأعناق، وحلبةً لاستعراض المجنزرات، ومهبطًا للطائرات الخاصّة والهلوكابترات، يعرضون رؤاهم العسكريّة ويتطلّعون لإنشاء مراكز للصناعات وبسط الاستثمارات، وكلّ ذلك بحجة تقديم الخدمات على أنقاض انتشار الموت والمجاعات، ولا مانع من تشييد أبراجٍ من المخيّمات، وقد خلعوا الأخلاق على مداخل الرقّة والعتبات، قذفوها بحرًا وجوًّا وبرًّا ألا وهي من المحصنات، ولكنها لن تكون عن بال أهلها من الغافلات.