الرقة تذبح بصمت
ليست بريحٍ مسخّرةٍ ليالٍ وأيّامٍ حسوما، ولا هي بقبضة الرّجل الحديديّ الخرافيّ من عاثت فسادًا وفعلت ذلك الدمار، وحوّلت شوارع الرقّة كأطلال المدن المنسيّة، بل هي قوى البشريّة مجتمعةً بحجة تحرير الرقّة من قبضة تنظيم داعش الإرهابي، الذي لم يتوانَ هو الأخير من السعي جاهدًا لتغيير معالم المدينة بما يتلاءم وتوفير الحماية له، فقد قام التنظيم ممّا يقارب السنة بتغطية شوارع الرقّة بالأقمشة “الشوادر” وذلك سعيًا منه لمنع قصفها من قبل طيران التحالف الدوليّ، خاصّة وأنّ الولايات المتحدة أعلنت آنذاك باقتراب المعركة من المدينة، إذ قام التنظيم بتغطيّة معظم شوارع الرقّة التي تتمركز فيها مقرّاته، إضافة إلى تغطية معظم الأسواق وأماكن التجمّعات، وذلك لمنع الطائرات “بدون طيّار” من استهداف قادته وعناصره، خاصّة وأنّ الفترة السابقة لإعلان الهجوم على مدينة الرقة، شهدت اغتيال العديد منهم، وسيما القادة.
ولم يقف التنظيم عند هذا الحدّ من تشويه معالم المدينة بل قام بحفر شوارعها وأزقتها محوّلها إلى أنفاق، وذلك ليتخفّوا تحت الأرض من أجل تسهيل حركة عناصره، ونقل أمنيه وقادته من وإلى مناطق سيطرته، تسهيل تمرير السلاح والعتاد، ناهيك عن الحفر التي أقامها من أجل دسّ الألغام التي بزعمه تدرء تقدّم ميليشيا “قسد”، ولكنها لم تكن إلّا طعمًا لاغتيال المدنيين من أبناء الرقّة.
ولم تكن الألغام كفيلة لردع تقدّم القوى المهاجمة، إذ عمد التنظيم بإغراق الرقّة بكمّيات كبيرة من المياه الملوثة، والتي غمرت مساحات واسعة من الأراضي ممّا تسبّب بتلف المحاصيل الزراعيّة، حيث تسرّبت هذه المياه لتطال الأحياء الغربيّة للمدينة، ممّا أدّى إلى انهيار في المباني، وتخريب الطرقات التي هي مدمّرة نتيجة القصف التي يطالها بشكل يوميّ من قبل طيران النظام والطيران الروسيّ وطيران التحالف، بالإضافة إلى المفخخات التي يفجرها التنظيم بمليشيا “قسد” بشكل يوميّ والتي تخلّف وراءها الكثير من الأضرار الماديّة من تدمير للطرقات والمنازل والممتلكات العامة، وكذلك الخسائر في الأرواح البشريّة.
واليوم ومع وصول المعارك على أعتاب مدينة الرقّة بين تنظيم داعش وميليشيا “قسد” المدعوم جوًّا من قبل التحالف، في سعيٍ من الأخير إلى تدمير المدينة وتغيير ملامحها، ففي البداية كان طيران التحالف يستهدف مقرّات التنظيم، ومستودعات ذخيرته، أو استهداف عناصر بعينهم، وهو أيضًا ما يساهم في تشويه شوارع وأزقة المدينة، من تدمير للطريق وما حوله، أمّا اليوم وبمُجرّد علم طيران التحالف بتواجد أفراد من عناصر التنظيم في بناء معيّن فإنّه يعمد إلى قصف المبنى بشكل كامل بغضّ النظر عن باقي المتواجدين في المبنى من هم من المدنيين من أبناء الرقّة، أو من هم من اللّاجئين، مُخلِّفًا وراءه العديد من الخسائر البشريّة، والماديّة والتي تتسبب بإضعاف البنية التحتيّة للمدينة، من نسف للطرقات، وتهدّمٍ في المباني.
حرب شوارع تتعرّض لها الرقة، تسبّبت في إنهاك شوارعها، وذلك بسبب القذائف التي تنهال من الطرفين المتحاربين ممّا ساهم في تخريب الأبنية والطرقات، والتي لم يعد معظمها يستخدم في سير عملية المرور، حتّى إذا ما توقف القصف يصبح الناس من أبناء الرقّة على جهلٍ بشكل مدينتهم، والتعرّف على معالمها، ليجدوا أنّ شوارعًا وأبنيةً نُسِفت عن بكرة أبيها، وهو ما توضحه أيضًا الصور التي تلتقط من الجوّ بشكل يوميّ، وبعد كلّ غارةٍ للتحالف على المدينة، توضّح حجم الدمار الهائل الذي يلحق بالرقّة و أبنيتها وشوارعها، لتظهر وكأنها أوابد تمّ التنقيب عنها، أو أطلالٌ للأقوام البائدة لا تصلح حتّى للوقف عليها لذكرى الأحباب والغيّاب والشهداء، ولكنّها تُؤَرّخ بكلمةٍ واحدة ألا وهي “من هنا مرّت آثار القدم الهمجيّة”.