في يناير/كانون الثاني 2016 ترك شاب سوري بيته في مدينة الرَّقة، بعدما أصبح غير قادرٍ على العيش لفترةٍ أطول تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). حلم بالعودة عندما تتحرَّر المدينة من التنظيم الإرهابي، ويقول الآن، بحسب ما نقلت عن مجلة فورين بولسي الأميركية، إن حلمه يُوشِك أن يتحقَّق.
لكنّه بدلاً من أن يبتهج، فإنه يشعر بالقلق من أنَّ مشاكل مدينته لم تنتهِ بعد. يجلس هذه الأيام مع أصدقائه في المنفى، ويمزح بشأن الخريطة غير الدقيقة التي تُصدرها وسائل الإعلام التابعة لقوات سوريا الديمقراطية (SDF).
وبينما تُقاتل القوات الديمقراطية تنظيم داعش بغرض السيطرة على مدينته، يستخدم هؤلاء السكان المحليون المزعومون الخرائط لإيضاح مدى التقدم الذي حققوه، لكنَّهم أشاروا إلى مواقع خاطئة لبعض الأحياء في المدينة، فيما أخطأوا في كتابة أسماء القرى النائية. وفي مقاطعهم المصورة، أخطأوا كذلك في نطق أسماء الأحياء والقرى التي يقاتلون فيها.
وفي حين يشيد مُعظم السُّكان العرب شرقي سوريا بنهاية عهد “داعش”، يحمل كثيرٌ من أهل الرَّقة مشاعرَ مختلطة تجاه محرِّريهم من الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية)، إذ يلوح الخوف من الانتقام العشوائي والعنصرية طويلة المدى بشدة. كيف سيتعامل العرب السُنَّة المُحرَّرين، الذين ارتكبت داعش باسمهم فظائع لا توصف، مع النظام الجديد؟ وفقاً لما تذكر فورين بوليسي.
لهذا يسأل هو وأصدقائه أنفسهم أسئلةً مثل: “هل من الأفضل لبيت الواحد منَّا أن يظل قائماً، أم يُسوَّى بالأرض، حتى لا تظنه القوات منزلاً داعشياً ويصادروه؟”.
“لا تصادر القوَّات سوى البيوت الداعشية” يجيب أحد أصدقائه، ويشير آخر إلى حقيقة أنَّ داعش صادرت مئات البيوت في السنواتٍ الأربع الأخيرة. لكن إذا صادرت قوات سوريا الديمقراطية المنازل التي صادرتها داعش من قبل، فهل سيستعيدها أيٌ من أصحابها الأصليين أبداً؟
لديهم سؤال رئيسي لمُحرِّريهم الجدد، وهو: ماذا سيحدث بعد؟
قبيل أسبوعين، أعلن طلال سلو، المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية، بدء معركة “تدمير ما يُسمَّى عاصمة داعش” و”تحرير عاصمة الإرهاب والإرهابيين”. ومنذ ذلك الحين، نجح المهاجمون الذين تُدعمهم أميركا في الاستيلاء على حيٍ أو اثنين على جانبي المدينة، وكثَّفت طائرات التحالف بقيادة الولايات المتحدة حملة القصف، فيما أفادت تقارير بأنَّها استخدمت ذخائر الفوسفور الأبيض. وقد أدَّى ذلك إلى ما وصفه أحد محققي جرائم الحرب التابعين للأمم المتحدة بأنَّه “خسارة مروِّعة في أرواح المدنيين”، إلى جانب تدمير الهياكل الأساسية الحيوية للأرض. ووثَّق نشطاء ينتمون إلى جماعة “الرقة تُذبح بصمت” أكثر من 600 حالة وفاة في الفترة بين مارس/آذار إلى يونيو/حزيران 2017.
ووفقاً لآخر التقديرات، لا تزال الرقَّة، التي تستضيف السوريين النازحين داخلياً من جميع أنحاء سوريا، موطناً لأكثر من 200 ألف شخص، و2500 مقاتلٍ داعشي. وقد تصير قوات سوريا الديمقراطية قريباً مسؤولةً عن حكم الفئتين معاً، غير أنَّ كثيراً من المدنيين الذين فرُّوا مؤخراً من “الخلافة”، التي أعلنها تنظيم داعش، إلى أراضي قوات سوريا الديمقراطية، يقولون إنَّ القوات التي يقودها الأكراد أكثر اهتماماً بجعل العرب مواطنين من الدرجة الثانية من تخفيف معاناة المدينة نفسها.
تقول فورين بوليسي إن أحد السكان الذي كان يُخطِّط للانتقال من الرَّقة في مايو/أيار الماضي إلى مدينة منبج (وهي مدينة أغلب سكانها من العرب، تقع في ريف حلب الشرقي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية) أُرغم هو زوجته وبناته الأربع على المرور من مخيم عبور في طريقه إليها.
ويقع المخيم (وهو واحد من أصل عدة مخيمات أنشأتها القوات بقصد التحرِّي عن خلفيات المارّين خوفاً من تسلل تنظيم داعش) في ساحةٍ مسيّجة تابعة لمرفق تخزين القطن ببلدة عين عيسى، على بُعد 30 ميلاً شمال الرقة.
وتقدِّر مفوضية الأمم المتحدة للاجئين أنَّ نحو 9 آلاف شخصٍ يقيمون في المخيم وحوله. يقول هذا الشخص الذي كان يخطط للانتقال: “تجمع قوات سوريا الديمقراطية البطاقات الشخصية لمن يغادرون الرقة، وتُرسلهم إلى المخيمات حيث يتعرَّضون لسوء المعاملة. إنَّهم يتحفظون على الناس لمدة تصل إلى 15 يوماً “تحت ضوء الشمس” بقصد تصويرهم وهم يتلقون الرعاية. لكنَّ الحقيقة أنَّنا لم نكن نتناول سوى الخبز في الصباح”.
أُرغم هذا الرجل على البقاء هناك 3 أيام، وقال إنَّ عائلته أُرغِمَت كذلك على النوم في سيارته بينما كان ينام هو على الأرض. واضطر وأقرانه للاحتجاج من أجل استعادة بطاقاتهم الشخصية. وبحسب ما قال: “لقد تعرَّضنا للضرب جراء ذلك. ليتني بقيتُ في الرَّقة”.
ومع ذلك، فقد تلقَّى في النهاية تصريحاً من الحُرَّاس للانتقال إلى منبج، لكنَّ العقبات لم تنتهِ برحيله. فعند وصوله إلى المدينة طلبت نقطة تفتيش الشرطة الكردية “رسالة رعاية” (وهي وثيقة موقعة من أحد سكان منبج تنص على أنَّ حاملها، أي الشخص الذي يلتمس اللجوء، جديرٌ بالثقة) حتى يُسمح له بالدخول إلى المدينة. لكي يحصل على تصريحٍ مُصدَّقٌ عليه للعيش هناك، سيضطر للمرور بمزيدٍ من البيروقراطية.
وتُعد منبج المدينة العربية السُنِّية الأولى التي يحكمها الأكراد. وإذا وضعنا كل هذه الصعاب جانباً، ليس الوضع مزرياً تماماً بالنسبة للعرب السُّنَّة. إذ كنتُ قد تحدثتُ مع عددٍ من الناس عن الوضع في منبج، وقالوا إنَّه تحسَّن منذ تسلَّم المجلس العسكري والمدني التابعين لقوات سوريا الديمقراطية الحكم من وحدات حماية الشعب الكردية.
ولا يزال الحظر الجوي المفروض بحكم الأمر الواقع فوق الأراضي التابعة لقوات سوريا الديمقراطية يوفِّر ملاذاً آمناً لآلاف الأسر التي إمّا فرَّت من سلطات النظام السوري، أو من المناوشات على الأراضي التي تسيطر عليها داعش. وإجمالاً، عانى العرب الذين يعيشون في هذه المنطقة من حكم كلٍ من الأطراف الأربعة المتقاتلة في الحرب الأهلية: قوات سوريا الديمقراطية، وتنظيم داعش، والجيش السوري الحر، ونظام الأسد.
أحمد، وهو رجلٌ في منتصف العمر كان يملك متجراً لصرف العملات في شارع المنصور بالرَّقة قبل أن يفر إلى منبج، قال لمجلة فورين بوليسي إنه يُفضِّل قوات سوريا الديمقراطية، إذ أوضح: “تحت حكم الجيش السوري الحر لم أتمكن من إبقاء متجري مفتوحاً خوفاً من أن يُنهَب لأي سببٍ من الأسباب. وفي ظل داعش ازدهر عملي؛ لأنَّ التنظيم كان يحمي ممتلكات من يديرون مثل هذه الأعمال. كان بإمكانك أن تأتي إلى متجريي بجيبٍ يحوي 100 ألف دولار أميركي دون أن تقلق بشأن سلامتك”.
وتابع: “الآن، وتحت حكم قوات سوريا الديمقراطية، لا يزال الوضع آمناً بنفس القدر، باستثناء أنَّنا لم نعد مُرغَمين على دفع أموال الزكاة”، وهو ما كان يفعله تنظيم داعش.
وبالنسبة للنساء، فإن التحوُّل من داعش إلى قوات سوريا الديمقراطية قد أحدث تغييراً جذرياً. وكانت سميرة، وهي صيدلية تخرَّجت في جامعة دمشق، واحدة من آلاف النساء اللاتي أُجبرن على ارتداء عباءاتٍ سوداء، وحجابٍ من الرأس إلى أخمص القدمين أثناء حكم الجماعة الإرهابية. وتمكَّنت من الإبقاء على صيدليتها بحي “فردوس” المركزي في الرَّقة عندما سيطر داعش عليها، لكنَّ هذا لم يكن سهلاً أبداً.
وقالت: “كان بيع الدواء صعباً. واجهتُ مشكلةً في إعطاء أقراص الدواء لأعضاء داعش دون تغطية يديّ بأكمام”.
وتأتي سميرة من عائلةٍ محافظة في الرَّقة، وكانت ترتدي ثياباً طويلة أمام داعش لكنَّها لم تُغطِّ وجهها أبداً. والآن في منبج، تنتظر أن يتحرَّر مسقط رأسها كي تعود إلى حياتها الطبيعية، بحسب ما ذكرت المجلة.
ويعتبِر كثيرٌ من العرب تولي قوات سوريا الديمقراطية الحكم أنَّه عودة إلى نظام الأسد قبل قيام الثورة، بخلاف أن السلطات باتت بين أيدي الأكراد بدلاً من العلويين. وقال أحمد: “يُشبه الأكراد النظام. هناك بعض المسؤولين الذين تصادف كونهم يتمتعون بالنزاهة، لكن، في بعض الأحيان، لا يستطيع الواحد استكمال حياته دون رشاوى أو علاقات. مع ذلك، لا تزال القوات أفضل بكثير من داعش أو باقي الأطراف”.
لقد غيَّرت سنوات الحرب نظرة بعض أهل الرُّقة إلى ما يريدونه لحياتهم ومدينتهم. ويرى البعض أنَّ البقاء ببساطة أصبح الهدف الوحيد بعد سنواتٍ من سيطرة الجهاديين على الأرض، والاستماع إلى هدير الطائرات الحربية في السماء. وقد يكون تحوُّل الرقة إلى نموذجٍ أشبه بمدينة منبج هو أفضل الحلول قصيرة المدى المتاحة لأهل الرَّقة، هذا في حال نَجَت المدينة بالطبع من الإبادة.
وقال أبو مرعي، وهو رجلٌ عجوز هجر منزله بشارع النور في الرقة: “نحن نرى لقطاتٍ مصورة مخيفة لما تتعرَّض له الرَّقة من دمار. ليت مقاتلي داعش ينسحبون قريباً. أملنا الوحيد هو أن نعود إلى ديارنا ونجدها ما زالت قائمة. لا يهمني من سيحكم”.
المصدر : huffpostarabi.com