الرقة تذبح بصمت
بينما تشهد بقية مناطق سوريا حالة من الهدوء وتوقف للعمليات العسكرية والقصف، ينتقل الموت إلى شمال شرق سوريا ليجد له مكاناً على ضفاف الفرات وبين جنبات مدللته الرقة التي شأت الاقدار أن تكون في يوم من الأيام “عاصمة الأمر الواقع ” لواحد من أكثر التنظيمات المتطرفة على مرِّ التاريخ.
فمنذ بداية شهر رمضان تشهد مدينة الرقة وريفها الذي لا زال يرزح تحت سيطرة تنظيم داعش تكثيفاً لعمليات القصف المدفعي والصاروخي والغارات من قبل مختلف أنواع الطائرات وحتى القاذافات الاستراتيجية منها ( B52 ). ويُقدّر عدد قذائف الهاون التي تتساقط على أحياء المدينة بشكل يومي من بعد الإفطار بقرابة 100 قذيفة تنهال وبشكل عشوائي على كامل المدينة بينما تتسبّب العشرات من القنابل – المضيئة التي تنير سماء المدينة- كل ليلة بحرائق واسعة . وتحت تمهيدٍ من نيران مدفعية الهاون يبدأ القصف الصاروخي اليومي منتصف كلّ ليلة من قاعدة “الجلبية” شمال عين عيسى بعشرات الصواريخ والتي تستهدف أحياء االمدينة لتحيلها إلى خرائب وآثر بعد عين ومنها القصف العشوائي على البُنى التحتية (محطات الوقود – مباني البريد والهاتف وغيرها الكثير) التي دمرّها القصف بشكل كامل أو جزئي، بينما لا تفارقُ السماء الطائرات الحربية والطائرات بدون طيار( الدرونز) مُنفذةً غارات وصل معدلها قُرابة الـ20 غارة يومياً على المدينة وريفها.
يقول أحمد أحد السكان المُتبّقين في مدينة الرقة: “عائلتي مكونة من ثمانية أشخاص ولا أملك سيارة أو أية وسيلةٍأخرى ، ولا أملك المال الذي يُمكّنني من النزوح، لذا بقيت بالرقة مرغماً كما هو حال عشرات الآلاف من جيراني، لم أشهد أياماً صعبة كهذه التي نعيشها حالياً، قذائف تتساقط كالمطر ولاتسمع صوت صفيرها في الجو، لتحيل المنازل الى ركام ولتزهق روح هذا أو ذاك، يتعذر علينا الذهاب للمساجد من أجل صلاة التراويح، كما أنّ أسواق الرقة للمرة الأولى لا تفتحُ بعد الإفطار”.
يتابع أحمد قائلاً : ضروريات العيش لم تعد متوفرةً حالياً لكن لا نعلم متى سوف يصبح تامين الخبز امراً محال ؟ فأعداد الافران العاملة بات محدوداً وقسم كبير من المحال التجارية أقفلت، وفي هذه الأونة لم يبقَ سوى أصحاب محلات الخضار والبقالات الصغيرة في الحارات الفرعية تفتح أبوابها، الشوارع الرئيسية بالرقة مقفرة وحالها صباحاً مشابه لحالها مساءً، والكل يتهامس ويتناقل الإشاعات وما يعرفه من الأخبار التي بات الحصول عليها أمراً صعباً ، فلا كهرباء لتشغيل التلفزيون ,وحتى أصحاب مولدات الكهرباء البديلة اقفلوا بسبب شح المحروقات وقلة المشتركين ، والمياه شحيحة ولاتأتي إلا ما ندر والأدوية قليلة وعدد الصيدليات المتبقية هو أربعة فقط.
أما أبو فراس 69 عاماً : “بقيتُ أنا وزوجتي لأنه لا توجد لنا القدرة الصحية من أجل النزوح، ناهيك عن عدم رغبتنا بتجربة حياة الذل في هذا المخيم أو ذاك ونفضّل الموت في منزلنا على الموت ذلاً خارجه. الناس هنا ممن تبّقوا نصفهم هم اصلاً نازحون كارهون لرحلة نزوح أخرى وقسم أخر من أهل المدينة فإما حالته المادية مزرية أو حالهم كحالي أو إنهم لم يستطيعوا الخروج، أحد جيراني حاول الخروج مع إخوته وعوائلهم فتمَّ إلقاء القبض عليهم ومصادرة القاطرة ( سيارة شحن كبيرة ) من قبل داعش والتي هي كل ما يملكون في الحياة ونتاجاً لتعب السنين الماضية”.
يتابع أبو فراس: الدواعش بدؤوا بتمويه أنفسهم كما لاحظنا، الملابس بدأت تتغيّر وأصبحت أقرب ما يكون للباس المدنيين العادي، قصروا ذقونهم ، وباتوا يتحاشون الكلام كثيراً مع المدنيين الذي هو أصلاً غير مكترث لحياتهم، ثلاثُ سنوات ونصف السنة منذ بدء دعاياتهم التحريضية الداعية للجهاد عن طريق خطب الجمعة التي يدعون ولم يستجب له إلاّ العدد القليل ، ولازالوا يكررون نفس الأكاذيب ولا تشاهد سوى عناصر الهاربة من هذه أو الجرحى المحملين بسياراتهم وهي تتوافد على المدينة منذ أكثر من عام. يقدّر عدد المدنيين المتبقين داخل الرقة وريفها القريب والذي لا زال تحت سيطرة التنظيم، قرابة 150 ألف مدني بينما تمكن أكثر من 300 ألف مدني أخر من النزوح نحو أرياف الرقة الخارجة عن سيطرة تنظيم داعش.
وبين جحيم الوضع الحالي قبل بدء معركة المدينة، والتفكير بالأحداث الجسام التي ستصاحب هذه المعركة الجارية (مع الأخذ بعين الاعتبار استعدادات داعش عن طريق تلغيم الشوارع والسيارات المفخخة والعبوات التي ملأت الشوارع وأطراف المدينة) يتمنى أهالي الرقة أن يكون مصير معركتهم المقبلة مشابهاً لما حصل في ناحيه بالمنصورة، حيث انسحب داعش منها بلا مقاومة تُدكر؛ لكن هناك ما يدحض هذه الفرضية وهي الاستعدادات الجارية على الأرض وتواجد عناصر داعش فيها وهذا من أهم أسباب تخوّف المدنيين من هذه المعركة، كما يُخشى من المهاجرين الذين بقوا إلى حد هذه اللحظة في المدينة وبحوزتهم كافة الصلاحيات المطلقة في إدارة الحرب فيها.