الرقة تذبح بصمت
مع كلّ يومٍ يمرُّ، تنحدرُ الحياة إلى أعمق نقطةٍ في الحضيض، حيث لا حضيض بعده، يفعلُ الناس ما لم يتوقعه أحدُ منهم، هكذا هي أعراف الحروب وعاداتها، وتحديداً تلك التي تدور بين السفلة فوق أرض الكرام وبين جثث أبنائهم الملقاة عليها. أما المتحاربون استعملوا كل أساليب الموت وفنونه على المتشبثين بأرضهم هناك، قصفاً ،قنصاً ،تفجيراً، اغتيال وذبح، حصار وتجويع، حرق وتهجير، كلُّ مايخطر على البال وما لا يخطر عليه أيضاً، كلُّ فنون الموت وطرائقه التي ابتكرها البشر ،جُرِّبت وكُرِّرت لتصبح عادةً وطريقة.
ضاقت المدينة بأهلها بالرغم من رحابة حواريها واتساع شوارعها وعدد سكانها القليل مقارنةً بمساحتها، ضاقت بهم أحياءً وأمواتاً، مذ هجروها هجروا إلى وجهات غير محدده، ضاقت عليهم وهم يصارعون من أجل البقاء فقط، وحين يموتوا لايجدون أرضاً تؤوي قبر رفاتهم! هكذا أصبح حال أهالي المدينة الباقين حين ضاقت بهم السبل والاماكن لدفن شهدائهم.
حوّل تنظيم “داعش” حديقة ((7 نيسان)) وسط المدينة لمقبرةٍ تأوي من لم يجد مساحة لاحتصان جثته، و بعد أن سيطرت ميليشيات وحدات حماية الشعب”YPG” على منطقة تل البيعة “القبور” شمال شرقي الرقة، بالإضافة للحصار الذي فرضوه على المدينة وأهلها، لم يبقَ مكاناً آمناً، إلا وسط المدينة والذي يتعرض للقصف بشكل يومي. هذه الحديقة تحوّلت من أحد أهم معالم المدينة إلى إشارةٍ للبؤس والتعاسة، لناقوس يُقرع في روؤس من سيحاولون النسيان، نسيان مايجب أن ينسى لتستمر الحياة لاحقاً حين يعود أهلها المشردين والمهجرين، حين يعود كل من رحل، يعود لينسى ولن ينسى كما يريد، تفاصيل الموت التي حفرت أخاديد عميقة في شوارع المدينة وطبعت على معالمها آثاراً لن تمحوها السنون بسهولة.
هنا دفن أبي، وهنا قتل عمي،هنا ذبح أخي، هنا جُلدتَ أختي، هنا رائحة الموت والحقد، هنا كان بيتي وعلى هذه الارض مدرستي، هنا كلُّ الذاكرة ولا حاضر إلاّ الموت الذي نهش أجسادنا جميعا ولم يترك لنا سوى ماضٍ جميل وحاضرٍ مزرٍ. لم يخطر في بال أحد أن تموت الحياة في مدينة لم يكن يُغمض لها جفن وخاصة في ليالي الصيف، لحجارتها حديث وذكريات خاصة أيضاً ، لهذه المدينة أحاسيس ومشاعر، تفرحُ وتحزن كالرجال، وهاهي الآن مكلومة ومتألمة، كلُّ أركانها جراح، تنزف دماً وفراتا، تنزفُ بشراً وذاكرة، تنزفُ ولا معين لها أو مُضمدِّاً لجراحها، تُركت وحيدةً مخذولة، لاحول لها ولاقوة. قد تكون هذه أخر الحروب التي تدور رحاها في شوارع هذه المدينة، لكنها كانت كداحس والغبراء أو البسوس أطول الحروب التي عرفها العرب.
كان للأهالي النصيب الاكبر من جراحها وآلامها، وللزمان والتاريخ. يتكّفل بالنسيان، من يدوّن التاريخ ويسطره هل هو المنتصر كما جرت العادة ؟ أما الضعيف” المهزوم” الذي قهرته الطائرات والسكاكين، لكنّه تغلب على من قهروه بصموده وبقائه شاهداً على المجرمين والقتلة وغيرهم من تجار الدين والقوميات.