الرقة تذبح بصمت
مع غروب شمس يوم العاشر من أيار/ مايو، يكون قد أُسدل الستار عن معركة الطبقة التي أعلنتها ما تُسمّى بـ «قوّات سوريا الديمقراطية» / التي تشكّل وحدات حماية الشعب “ypg” عمادها الرئيس، والتي كانت قد أطلقتها في الواحد والعشرين من آذار/ مارس الماضي وبهذا تكون هذه القوات المدعومة من قبل التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب قد أحكمت الخناق على تنظيم ‹‹داعش›› الذي يتحصّن عناصره فيها باعتبارها واحداً من معاقله الرئيسة في سوريّة.
المعركة التي استمرّت قُرابة الخمسون يوماً، اعتمدت فيها هذه القوات على الدعم الجوي اللامحدود لهذه القوات، ناهيكَ عن الإنزال الذي قامت به قوات أمريكية خاصة سيطرت بموجبه منطقة الكرين ، واعتمدت على تكتيكات مختلفة ومفاجئة لعناصر داعش الذي توقعوا أن يتم تكثيف الهجوم على الرقة من الجهة الشمالية، لكن هذه القوات التي ساندتها طائرات التحالف التي لم تفارق سماء الطبقة وريفها؛ استخدمت أساليب قضم الأرض التي يسيطر عليها التنظيم رويداً رويداً، ممعنةً في حصار عناصره والتخفيف من كفاءاتهم في الإلتحامات المباشرة، والحيلولة دون تنفيذهم لعمليات انتحارية تؤّخر تقدّم القوات المهاجمة أو توقع إصابات وخسائركبيرة في صفوف هذه القوات.
بالطبع كان الحال في معركة الطبقة مماثلاً للمعارك السابقة التي يشنها التحالف الدولي للحرب على الإرهاب؛ فالتحالف الدولي عبر طائراته ووكلائه المحلييّن (( في سوريّة «قوّات سوريا الديمقراطية» وفي العراق ميليشيا الحشد الشعبي)) لم يكترث لحياة المدنيين وارتكب انتهاكات وجرائم موصوفة عن طريق غاراته التي لم تميّز بين المدنيين وعناصر«داعش» وبهذا السياق نشرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بمناسبة مرور ذكرى اليوم الألف على بدء عمليات قوات التحالف الدولي في سوريا قالت فيه : إنّ هذه العمليات قتلت 1256 مدنياً بينهم 383 طفلاً وخُلص هذا التقرير إلى عدم اكتراث هذه القوات بحياة المدنيين وعلى عشوائية الضربات التي قامت بهذه القوات في عامي 2016 و 2017 مقارنة ً بعامي 2014 و 2015 التي كانت أكثر تركيزاً من ناحية استهدافها لمواقع « داعش» وأقلّ تسبباً للخسائر بين صفوف المدنيين، وأشار التقرير أنّ تم ارتكاب 51 مجزرة منذ بدء هذه العمليات في أيلول/ 2014 34 منها في محافظة الرقة وحدها وهذا ما توضّح في أكثر من مرة خلال القصف العشوائي لأحياء الطبقة وريفها وارتكاب التحالف لأكثر من مجزرة خلال هذه المعركة أخرها على سبيل المثال لا الحصر، المجزرة التي وقعت في الأول من أيار/ مايو الفائت واستهدفت منزل سكني كان بداخله ثلاث عائلات شمال دوار العجراوي في مدينة الطبقة، ارتقى على أثرها أكثر من 16 شهيداً أغلبهم من النساء والأطفال وهذا ما يتوافق مع الخلاصات والأرقام التي أشار إليها التقرير أعلاه.
ملامح التحوّل:
أبرز ملامح التحوّل ـــ في السياسية الأمريكية للتعامل مع داعش ــــ كان الإنزال الجوي للقوات الأمريكية في الثاني والعشرين من شباط/ مارس في أربعة مواقع في ريف الطبقة (أبو هريرة والمشيرفة والكرين والمحمية الطبيعية قرب قرية الكرين، غربي مدينة الطبقة)،، والذي قامت به بشكل متزامن كلاً من مشاة البحرية الأمريكية “المارينز” و «قوّات سوريا الديمقراطية» لتسيطر بموجبه على الطريق الواصل بين الرقة وحلب. ناهيكَ عن المزايا العسكرية والجيوسياسية لهذا الإنزال؛ إلاّ أنّ العامل الأكثر أهمية ً والذي يمكنه ملاحظته هو: اشتراك قوية أمريكية على الأرض لقتال « داعش» اتساقاً مع السياسة الأمريكية الجديدة التي ينتهجها الرئيس الأمريكي ترامب ، والرامية إلى إنهاء وجود داعش بأي شكل ممكن وبأيّة أكلاف، في قطيعة واضحة مع الساسة “الأوباميّة” التي اعتمدت القصف الجوي وإقامة قواعد عدّة لدعم حلفائها، لكن دون المغامرة بإشراك مقاتلين أمريكيين في المعارك الدائرة مع التنظيم في الجبهتين السوريّة والعراقية.
ثاني ملامح هذا التحوّل والتبدّل في الاستراتيجية الأمريكية، هو عدم الاعتداد بالكلف البشريّة التي قد تخلفها هذه المعارك، وكما ذكرنا أعلاه فقد كانت غارات التحالف في بدايتها مركزة ودقيقة، وتتوخى الحذر قدر الإمكان ألاّ تتسبب في مقتل مدنيين نتيجة لهذه الغارات، لكن السياسة الأمريكية المنتهجة خلال معركة الطبقة، اعتمدت على تكتيك حصار الخصم وخنقه وشل حركته في أقل حيز جغرافي ممكن ( تمّ حصار ما يقارب 30 ألف مدني في منطقة جغرافية بقطر 5 كيلومترات) لكن هذا أدى إلى حصار المدنيين الواقعين تحت سطوة إجرام داعش، وحوصر هؤلاء المدنيون بظروف بالغة السوء، بعد قطع كافة الاتصالات الفضائية في المدينة ولاحقاً انقطاع الماء والكهرباء، وصولاً إلى قصف غرفة التحكم الرئيسية لسد الفرات وتدمير مبنى الهاتف الأرضي في المدينة، بالطبع دون الاكتراث بحياتهم وكيفية تدبير أمورهم، أو التفكير بفتح ممرات إنسانية تساعد المدنيين في الهروب من جحيم هذه الحرب والحصار، أمّا من استطاع الهرب فأمضى لياليه في ظروف غاية في السوء بلا تأمين أيّة متطلبات إنسانية بسيطة كالغذاء والماء والدواء والإسعافات الأساسية للجرحى والمرضى، تكتيك الحصار المُتبع كان بالنهاية على حساب آلاف المدنيين الذين رزحوا تحت رحمة احتلال داعش وإجرام عناصره، والحصار اللإنساني من الجهات التي أعلنت عزمها وتذرعت بحجة تخليصهم من شرور داعش وويلاتها.
ثالث هذه الملامح وأهمها: هي استراتيجية المفاوضات مع عناصر داعش، فقد حصلت عدة مفاوضات مع عناصر داعش الذين حُوصروا في الأحياء الرئيسية الثلاث في المدينة ( الأول ــ الثاني ـــ الثالث ) وتحصنوا فيها، وتمحورت هذه المفاوضات على خروج آمن لعوائلهم والجرحى منهم، مقابل تسليم المدينة وخلال هذه المعركة أُشيع عن أكثر من محاولة للمفاوضات تتم عن طريق وسطاء بين «قوّات سوريا الديمقراطية» من طرف وتنظيم « داعش» من طرف أخر، وبُعيدَ تسليم المدينة نُشرَ نص اتفاق لم يؤكده الطرفان، تضمّن مجموعة من البنود أهمها : انسحاب عناصر داعش من الأحياء الأول والثاني والثالث من المدينة، وفتح معابر آمنة لعناصر داعش من سد الفرات لمناطق سيطرتهم وعدم قصفهم أو مهاجمتهم أثناء تنقلهم بوسائط النقل المُتاحة مقابل التزامهم بعدم تفخيخ سد الفرات أو إجبار أي من الأهالي على مرافقة عناصرهم، بل وصل الحد إلى تسوية أمور الراغبين من عناصر داعش في حالة مشابهة لحالات ” الاستتابة الشرعية” التي يطبّقها داعش مع المخالفين، إذاً، انتهجت القوات الأمريكية وحليفتها مليشيا قسد تكتيك المفاوضات مع العناصر الإرهابية وهم طالما توعدوا بعدم التسامح مع الإرهابيين أو إعطائهم فرص للنجاة من جرائمهم وأفعالهم الشنيعة، لكنّ يبدو هذا التكتيك نهجاً جديداً تتبعه الإدارة الأمريكية في إدارة ملف داعش والتعامل معه.
نتائج معركة الطبقة :
تزامناً مع إعلان ميليشيا «قوّات سوريا الديمقراطية» بسيطرتها على مدينة الطبقة، أعلن مسؤولون أمريكيون على موافقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تزويد وحدات حماية الشعب/ الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني في سورية بآليات ثقيلة لدعمها فيي الخطوة المقبلة لمعركة استعادة الرقة من قبضة تنظيم داعش، بينما شددت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) على أن تسليح القوات الكردية “ضروري لضمان تحقيق انتصار واضح” في الرقة، وجاءت هذه الخطوة رغم مباحثات هامة أجراها مسؤولا الاستخبارات والأركان التركية في واشنطن تحضيراً لزيارة أردوغان لواشنطن ولقائه المرتقب مع نظيره ترامب، بيدَ أنّ هذه الخطوة ستكون أكثر مرحلة سيئة من العلاقات المتوترة والمضطربة بين تركيا وواشنطن،لأنها بمثابة تهديد خطير وحقيقي للأمن القومي التركي. وهكذا فإنّ معركة الطبقة أنهت على ما يبدو التفاهمات والنقاشات المتواصلة حول كيفية إشراك الأتراك أو فصائل عربية تدعمها تركيا في معركة “تحرير الرقة”، وأدت إلى اعتماد وحدات حماية الشعب الكردية / أهم مكونات «قوّات سوريا الديمقراطية» كحليف أساسي ووحيد وقادر على حسم معركة معركة الرقة بحسب المتحدثة باسم الإدارة دانا وايت.