الرقة تذبح بصمت
المدينة، نعي تماما أنها لن تصمد طويلاً وتقف الآن بين زمنين مختلفين، كل ما نأمله أن تهبط معجزة من السماء تغير كل شيء وهذا لن يحدث أبداً، لابد من أن يمر وقت طويل حتى ندرك حجم الكارثة وحدودها بعد ما اتضحت ملامحها وقبل أن نتمثلها في أنفسنا ويصيغون لها اسم آخر لنتأكد أننا ضحاياها كما حدث مع سابقتها، سيتحول هذا الحاضر إلى ماض ونعيش على إمتداده حين يُعّلَن أننا فقدنا جزءً عزيزا من القلب مرة أخرى، اما إلى ذلك حين وفي عمق التفاصيل الشخصية المتعبة التي خلقتها الظروف، الذهول هو الحالة السائدة الذي لازلنا نعيشها منذ سنوات، وقد نعيش أضعافها حتى يقضي الله أمره.
هكذا يتحدث “الرقاوي” حين يسأل عن المدينة واهلها، يقف بين خيارين لا ثالث لهما إلا الهجرة، دولة الخلافة و ميليشيات الانفصال، وعليك أن تختار بينهم ولا سبيل لغير ذلك، الخيارات محدودة والامال معدومة والمدينة على وشك السقوط! وليس باليد حيلة الا الابتعاد عن الاحلام والوعود التي يطلقونها عن الثوابت والمواقف والعيش المشترك في واقع مرير وقبوله في دولة انفصالية او داعشية او خلف الحدود البعيدة.
هذا الاسى الذي سنعيش على امتداده في اي حال نختار، او يفرض علينا، كلام يبعث في النفس خيبة لا حدود لها، لكنه واقع وبعيد عن الاحلام الوردية التي ترسم مدينة فاضلة لا مثيل لها، او على الاقل مدينة الماضي التي باعوها بسوق نخاسة في اجتماعات الامم وجلسات الحلول المنشودة التي كان احلها خلع الدور عن اهلها، ثم بعد ذلك يطلقون عليك لاجئ، وتسقط هذه الكلمة على معجمك وتصبح هويتك في بلاد الجوار والمهجر البعيد، يتعاطفون معك تارة ويخافونك تارة بعدما بصمّت “داعش” علامة الإرهاب على جبينك وفي بطاقة الشخصية التي اصبحت محظ اهتمام ومراقبة عند اجهزة الشرطة والمخابرات ” ايسس.!!!” وإن أبتعدت عن فكرة اللجوء وويلاته لن تكون الا نازحا بعدما قسموا بلادك الى دولتين لكل منها قوانينها وانظمتها وعقوباتها التي سنت عليك فقط، في الاولى متهم وفي الثانية مدان وبكلا الحالتين معاقب، وان تجاوزت هذه الفكرة وبقيت ثابت في ارضك سيبلعك الطوفان وبما ان الحياة كريمة فالنجاة الى حين افضل الحلول، والشمال قريب جداً وكرامتك محفوظة فـ انت لم تغادر ارضك!.
مغمور إذا؟ هذه اخر الصفات التي تطلق عليك وستبقى كذلك ولك بغيرك اسوة، ستبقى هذه الكلمة لاصقة فيك وتصبح اطارك الاجتماعي وعنوانك المحلي ولن تكون يوما غير ذلك، وليس في الكلمة اي عار، الا للدلالة عليك “حديث الاقامة” ولست صاحب بيت، لايمكن لانسان اي يفكر بالامر من كل جوانبه وفي كل احتمالاته، لايمكن للعقل البشري ان يستوعب ذلك، اي مأساة نحن بها واي كارثة وقعت فوق روؤسنا، الهذا القدر حل غضب التاريخ والجغرافية والطبيعة علينا ! والعالم وكل شيء أيضاً.
ماهو السبيل واين الحلول، تعبت المدينة وتعب الناس، انظر من حولك كلهم عابسون يحملون كالحطابين هموهم وذكرياتهم ومدينتهم وكل شيء الى حيث لايدرون، ينحدرون الى القاع بقدرة القوة التي يدفعهم بها العالم الى نقطة الصفر يصارعون لاجل البقاء ومع ذلك لم يتخلوا عن انسانيتهم وخصوصية البشر التي ميزتهم عن من اوصلهم الى هذا الحد، لم يتخلوا عن المشاعر المرهفة وهي التي تعيق قدرتهم على التكيف والبقاء.