الرقة تذبح بصمت
لم تُعلن أخبار مقتلتها في الصحف ومحطات التلفزة، ولم يتسابق الصحفيون والكتّاب لذكر مآثرها واستدعاء سيرتها، تلك التي قَسّمت جسدها على السوريين وتركت آثرا يدل على جلادها ولا يدل عليها، من يحمل عنها عبئ الذاكرة وتعب السنين؟.
لازالت الإجابات مستعصية عن معاني البطولة والصمود، عن الكفاح والنضال، عن أولئك المنسيين وأخر الشهود وحملة الدم والكفن لأجساد ذهبت مع الريح ولم يبقى من رفاتها إلا ذكرها، في خواطر أهلها وشوارع المدينة وساحات الشهادة التي اتسعت للجميع، جميع من قالوا لا، ومن أبت أنفسهم العزيزة على الركوع او الهروب وكان لرقابهم ورؤوسهم مايعد لها منذ سنين وهم يعلمون.
لم تُدوّن أسمائهم ولم توثق صورهم في سجلات الدم وتعرض على اصحاب الثأر رحمة عليهم ورأفة بحالهم، لم يكونو ضحايا حرب ونيران صديقة بقدر ماكانوا خصوما وأندادا لاقوام ظنوا فيهم سواء وأعلنوا مقتلهم، لم يكونو يوما إلا اهل البيت وأصحابه، والموت الموت دون ذلك!.
هؤلاء الذين لم يعرفوا الا جوادا لا يسرج بغير الريح، ولا يمتطي ظهره الا الرجال من أصلاب الرجال، أضعفهم كان المقدام لحتفه، يسابق عليه الزمان وأجبنهم لم يترك في عنقه دين الرجال، ودوّن في سيرته حكايات خلف القضبان، لاشكوة لهم ولا صوت منهم إلا تلك التي تقول لا، وتطلق التهديد والوعيد الى بعد حين، حتى يعود الفرس عن كبوته ويسير في طريقه الذي سلكه قبل سنين.
يكابرون في أنين جراحهم ولايتضرعون لغير من لايستحق التضرع، لا ينفون مايتحدث الكوكب عنهم ولا يأبهون لذلك، فالباطل يموت بالهجران والنسيان، باسمين ضاحكة ثغورهم نكاية بالأعداء والقتلة، بكل من يحاول شامتا كسرهم وتثبيط عزائمهم التي سكبت دمائهم على طول البلاد وعرضها من جنوبها إلى شمالها ومابعد شمالها خلف الحدود البعيدة، يموت بعضهم يوما بعد يوم، يموت أخر الرجال المنسيين وأخر الأبطال المجهولين، من لاتعرف صورهم ولم تسمع باسمائهم، من بلغوا في الشجاعة مواضع لم يرتقي إليها أحد قبله ولا بعده في بلاد الموت، يموت هؤلاء مقتولين في معارك الصمت وقوفا تحت سقوف دورهم او في ساحة أحيائهم.
الحديث عن أخر الصامدين و أول المحاربين عن جرح يمتد بمساحة ضفتين، يتطلب لغة أوسع وحروفاً أكثر، على ورق يمتد من الفرات إلى البليخ، يحتاج الف كتاب ورواية بحبر الدم ويراع من العظم، يحتاج كل ما لايحتاجه هذ العالم الأصم.