خاص – الرقة تذبح بصمت
مصطفى الجرادي
في روايته الشهيرة ((جسر على نهر درينا)) يقدّم الأديب والسياسي اليوغسلافي سابقاً الصربي لاحقاً ” إيفو آندريتش” نموذجاً فريداً في عالم الرواية. فهو يقومُ بجعلِ الجسر الخاص بمدينة “فيشيغراد” هو البطل والشخصية الرئيسيّة والمحوريّة التي تدورُ حولها أحداث الرواية. يقول آندريتش عن الجسر في روايته: ” لذلك تكاثرت البيوت وازداد عدد السكان على جانبّي الجسر مع مرور الزمن، وعاشت المدينة بفضل الجسر، وخرجت منه خروجها جذر لا يفنى”.
لذا قد لا يكون من المُستغَرب، ارتباط سكان مدينة ما، بجسورها التي كانت تربط هذه المدينة بغيرها من جهات البلاد، الرقة التي كانت في أربعينيات القرن الماضي معزولة ًعن محيطها ولا يستطيعُ العبور من “الجزيرة” أي الرقة تجاه ” الشامية” ليتم من خلالها إكمال الطريق إلى محافظات الداخل والساحل السوريّ، وكان العبور هذا يتمُّ بواسطة الطوافات والسفن الصغيرة.
للرقة جسران ــ أولهما الجسر القديم وبلهجة أهل الرقة “العتيج” ــ أو جسر المنصور، وبالعودة إلى تاريخ هذا الجسر تشيرُ بعض المصادر إلى أنّه : “يعود بناء جسر “الرقة” القديم إلى عام /1942/ حين بنته السلطات البريطانية أثناء دخولها إلى سورية من العراق لقتال القوات الفيشية، ويبلغ طوله نحو /630/متراً، وتشير لوحة الدلالة الموضوعة في أول الجسر، أن هذا الجسر سمي بجسر “غيت”، وصُمّم بثلاثة أيام، وتم بناؤه في أربعة أشهر ويومين، وذلك في أوج الفيضان الربيعي للنهر، وقبل أن يتم بناء سد “الفرات”، وتم تأمين مستلزمات الجسر من المخلفات الصناعية أثناء الحرب العالمية الثانية، وأنابيب النفط”. هذا الجسر تمّ استهدافه في شهر مارس/ آذار 2014 من قبل مدفعية قوات النظام وتسبّبت بأضرار جزئية.
ثاني الجسور، هو الجسر الجديد، الذي بُني ستينيات القرن الماضي لاستيعاب الكثافة المرورية المتزايدة وليكون رافداً وداعماً للجسر القديم.
جسورُ الرقة بما لها من قيمة مكانيّة ورمزيّة لدى أهل الرقة، تعرّضت لاعتداءات متوالية خلال السنوات الماضية سواء من قوات النظام “الكيماوي” السوري أو الطيران الروسي الذي استهدف الجسر الجديد في العام 2015 ، التحالف الدولي المُشكلّ لمحاربة الإرهاب هو الآخر ساهم في هذه المجازر بحق البُنى التحتيّة لهذه المدينة التي تعاني من إرهابات مُتعدّدة ويختنق أهلها جرّاء ممارسات تنظيم داعش الإجراميّ الذي احتلّ المدينة منذ العام 2014 والمجازر التي يرتكبها طيران التحالف الدولي بين الفينة والأخرى أثناء حربه الشاملة للقضاء على “داعش” وبالطبع لا تُنسى المجازر السوريّة ــــ الروسيّة بحق أهل المدينة ومدنّييها في خِضمّ المزاودة الدولية والسلع الرائجة التي تغطي على كل الممارسات الشنيعة وهي “القضاء على الإرهاب واجتثاثه”.
شكلّت الغارات الأخيرة على الجسرين (قامت طائرات التحالف بتدمير خمسة جسور في الرقة السبت الفائت)، صدمة ً لأبناء المدينة فظهرت بوادر الأسى واللوعة وقد لا تخلو أي صفحة من صفحات أبناء المدينة على مواقع التواصل من عبارات الرثاء والصور والذكريات، فهذه الجسورٌ ليست حجارةً مرصوفةً يمرُّ فوقها العابرين فقط. بل عندما تريد أن تقصد العاصمة دمشق أو حمص أو مدن الساحل وقبل أن تغادر عالمك الصغير ومدينتك الطفلة “الرقة” يجب أن تعبر من فوقها وأنت تنظر إلى جانبيّ النهر أوقات انحسار الماء أو فيضانه تشعرُ أنّ شيئاً ما يغادر معك، مرّات عديدة وأنا أغادرُها مُتوجِّهاً إلى الجامعة وغالباً ما يكون ذلك منتصف الليل، كنت أقول لنفسي: هذهُ البقعةٌ الجميلة ما الذي ينقصها لكي تكون أفضل ولماذا نبخسَها نحن أبناؤها حقها؟ الجواب بالإمكان استشفافهُ اليوم في عيون أبنائها المنفيّين، فصورةٌ واحدة قادمةٌ من هناك قادرة على تحريك كلِّ لواعج الحنين والمشاعر المكبوتة.
بالعودة إلى الجسور، فالعلاقة العاطفية التي تربط أهل الرقة بجسورهم، تشبهُ علاقة جيرانهم الديريين الذين عشقوا جسرهم وافتخروا به، وكان رمزاً لمدينتهم، إلى أنّ دمرّهُ هولاكو هذا العصر. الرقاويين كانت جسورهم مستودعاً لذكرياتهم، وتأريخاً لأيامهم ولحظاتهم السعيدة، فهي الشاهدةُ على ليالي السمر، وعلى لحظات العشق المسروقة، وبالطبع كانت المكان الأمثل كي يفخر الشباب بمهاراتهم بالسباحة، فكأنّها تراقب مهاراتهم التي يستعرضوها من فوقها. وأيضاً كانت هذه الجسور شاهدةً على أجيال عِدّة مرّت بجوارها وربّما أسرَّ لها بعض العشاق بأسماء حبيباتهم أو باح لها بعض الطموحين بأحلامهم، واشتكى لها الفقراء العوز والفاقة ورجوا بأن يكون الفرات الذي يمرُّ من تحتها عوناً لهم. وكم من أمَّ ثكلى بكت فلذات أكبادهن الذين قضوا بجوارها؟ كانت جسور الرقّة تاريخاً من الحبِّ والألم والحنين والذكريات.
الرَّقَّةُ اليوم أمُّ ثكلى، تبكي أبنائها الذين تفرّقوا في جنبات الأرض، تبكي ليالي الأنس الملاح والسهرات الصيفيّة التي تشتهر بها المدينة، تبكي من جور الزمان الذي جعل عُصبة من شرار الخلق تعيث فساداً في جنباتها، تبكي جرّاء تحويل هذه المدينة الوادعة البسيطة رمزاً للشر والإرهاب، تبكي من إهمال الأقربين قبل الغريبين لشكواها وحزنها، واليوم تبكي المدينة مع أبنائها جسورها، المدنُ أيضاً تبكي أهلها وناسها وحجارتها وتشيّعُ جسورها لكنّ بصمت.