الرقة تذبح بصمت
للمرة الآلف ” بعد بوزك عن المايك، ماني فهمان شيء” أقولها بشكل مستمر في كل جلسة ” دردشة” بيني وبينه، لكنها المرة الأخيرة ستكون، هكذا اخبرني اكثر الصامدين تعنتاً هناك، نكاية باللصوص والقتلة، حاملاً ماتبقى من تركة المدينة في أدبها الشعبي وليال اُنسها الخوالي.
عصام الأسم الوهمي لأقرب الأصدقاء، وأكثرهم “عناداً” صاحب الموقف والكلمة، حتى بلغ الأمر بنا لمنادته ” التيس” من شدة ثباته على مواقفه واراءه، التيس أو عصام لازلت أتمنى أن يقرء ماكتبت الآن دون إكتراث به طالما أنه يفخر بتلك الصلابة دون الأهتمام للمسميات، لا يهتم للأسماء منذ أصبحت الرقة ولاية، و”كشاش الحمام” شيخاً، و طمطوم حارس المقصف الذي يسكر به، اباً للمغيرة.
قرار الرحيل الذي إتخذه لم يأتي عقب تفكير ودراسة للأمور أو نتيجة الخوف وأسبابه الطبيعية لحال المدينة، هذا الرجل لايريد قدح شرارة الأنفجار، بعد أن امتلىء هذا الجسد وضُغط بما فيه الكفاية، ضغط من القهر، قهر الرجال الذي لايعرفه الذكور، يريد دخول الموت من اوسع أبوابه، الباب الذي طرقه قبل ست سنوات، يجمع كل يوم باشياءه الجميلة، واحدة واحدة، ليستذكر بها في المستقبل حاضره الذي سيصبح ماضي، جمع كل شيء في فناء المنزل الذي كان شاهداً على ماجمعه طيلة السنين، شارداً في وحشة المكان يوم غداً بعد الرحيل، وماذا سيكون!.
بعد ساعات من التفكير انهى علبة كاملة من دخان ” ميكادو” و دلة قهوة، دون ان يأبه لجاره التونسي الذي قد يشتم رائحة التبغ ويعاقبه شرعاً، ألم اقل لكم انه ” عنيد”.
ورث عصام منزله من والده الذي أفنى عمره في بناءه حجر على حجر، سيتركه ويترك معه عمر والده وقبره وقبر أُمه وقبور كل من مروا هنا، سيترك كل هذا الإرث للموت لاغيره، في قذارة من سيخلفه فيه أو حمم النار القادمة من السماء، ليحول الى رماد ينثر لا جامع له، كما يفعل السيخ في موتاهم، هكذا يرى عصام منزله وماسيتركه وراه.
بالطبع ليس الرقي الاخير يرحل، لكنه مثل الصغير أبو عبدالله صاحب غرناطة سيترك بصمة عار للتاريخ “زفرة الثوري الاخير” ليرحل دون عودة تاركاً خلفه الموركسيين، هكذا بدت له الأمور أخيراً بعد أن حزم أمره حاملاً قلبه تحت قميصه وخريطة من ” المهرب” لتكون دليله في الطريق، أيام قليلة وتبدأ تغريبة هذا الرجل الى حيث لايدري، ريفي حلب وادلب، تركيا، اوربا، الخليج، ليس هناك وجهة محددة، كل الطرق تشير الى الخروج من الرقة، نقطة ثابتة الى المجهول مكاناً وزماناً.
الرقة المدينة التي عاش ثلاثون عاماً بين شوارعها وحاراتها القديمة، جلس سنين على ضفاف نهرها- هذا إن جمعت الساعات مع بعضها- في اوقات حزنه وفرحه، مع أن لافرق بين هاتين عند هؤلاء القوم- الرقيين-، تجدهم يغنون ليلاً لاتعرف إن كان هذا فرحاً ام رثاء، غني تراثهم بمواويل لايفك شيفرتها إلا هم ولا تطرب أحداً الا هم، هؤلاء جميعهم، لاتفرق بين نفس واخرى بين طفل وشاب بين جميع المختلفين، لاتفرق شيءً كلهم سواء في لهجتهم، صوتهم، عاداتهم وتقاليدهم ولباسهم وكل شيء يعيشه الانسان.
لا أذكر اين قرأت أن المدن التي تتوسطها الانهار، يكون أهلها بجملتهم طيبون ورقيقو القلب، ودائماً في ختام كل القصص والحكاية تحل الكارثة عليهم وهم أكثر المظلومين واحزنهم. حتى وإن كانت هذه المقولة التي سمعت بها هي من وحي خيال احدهم ويمكن أن تصيب وتخطئ، لكنها أصابت اهل الرقة وكانت أكثر مايصفهم.
وهذه المدينة أيضاً قد تتلخص بشخص عصام الذي رحل ولحق بسابقيه وترك خيط لمن ورائه، يبحث عن مدينة تقع على كتف أيسر لأحد الأنهار ويكون أهلها طيبون متشابهون، يبحث عن ماضِ يحياه في المنفى، عن ليال أُنسِ وسمر، عن نديم الليل ومن تضحك في وجهه لتسرق قلبه مرة أُخرى دون ان تكترث له، عن سمراء يحدثها بلهجته ويشرد سارحاً بها على وقع المولية، عن المستحيل عن رقة أخرى.
يسألني قبل ختام الحديث، “شنو رأيك باورفا” هل هي مكان مناسب للعيش؟ بعد أن وصلت أخبارها اليه، شبيه بالرقة وليس الشبيه كما الاصل، ولكن مالعمل بعد أن ضاقت الارض بنا بما رحبت، يكمل عصام حديثه: من هاجر الى اوربا يريد العودة، حتى الى تركيا بدأ يحن، ومن في تركيا ايضاً يريد العودة او ينتظر ويعد الساعات والدقائق رغم أن ثلثي اهل الرقة يقيمون فيها والمدينة –اورفا- بطابعها العام تشبه الرقة الا أن الاصل لامثيل له، نقاش طويل، انتهى بقرار من عصام لا عودة فيه، اورفا هي المستقر حتى يفرج الله علينا وينظر في أمرنا، موعدنا قرب البوابة الحدودية …. سلام.
لا خبر يأتي من هناك ولا عصام يمر من هنا –البوابة الحدودية- التي أنتظر عند مدخلها منذ أسبوع، لايمكن وصف شعور الخوف التي يلبسني، لا حياة ولا موت، بين هذا وذاك، الانتظار قاتل،،، قاتل.
الخبر الذي نُشرته احدى صفحات ريف حلب يقول ” مقتل شاب من مدينة الرقة جراء إنفجار لغم ارضي من مخلفات داعش، يرجى لمن يتعرف عليه أن يبلغ ذويه” مع صورة مرفقة لبقايا عصام. أغلقت هاتفي المحمول وعدت الى منزلي في اورفا دون مبالاة لما رأيت وسمعت، لم أُفكر بالامر إطلاقاً وكأنني لا أعرف هذا الرجل اطلاقاً، لم أتاثر بشي.
أعيش ايامي بشكل طبيعي وكان شيء لم يكن، لا أعرف السبب ولم أجد تفسيرا لذلك، الا أني أحلم كل ليلة بالعودة وماسافعل في اول لحظاتي هناك، كيف ساقابل عصام وبقية من تبقى من أصدقائي، نشرب القهوة ليلاً على أبواب منزل احدهم، نمشي في الحي، نتجول في السيارة، نفكر في قضاء يوم الجمعة على ضفاف الفرات.
قال لي احدهم أن ماحصل معك تجاه صديقك أمر طبيعي اصاب جميع الناس الذين فقدوا عزيزاً، أنت لم تراه منذ ثلاثة سنوات ولازال عقلك الباطن يظن أنه هناك وستراه يوما عندما تعود.
انا كنت اول الهاربين قبل اكثر من الف يوم، الف يوم تودع الرقة فيها كل ليلة عصام وأحمد، وتبلع مهند ومحمود، وتغيب فراس وعبد الاله، الرقة تأخذ والنساء يلدن، هكذا نحن لم نفنى عن بكرة ابينا ولم نقاوم، نعيش لنتكاثر ونزيد من الجرح طولاً وعرضاً.