الرقة تذبح بصمت
انتهت مهمتنا في الرقة، وأثناء انسحابنا ومحاولتنا العبور نحو الحدود السورية التركية، المعزولة عن العالم بكل أنواع الأسلاك والخنادق وجدران العزل، كنا، مع مئات من السوريين والعراقيين الفارين من جحيم داعش ومن يحاربها.
نادى علينا صوتٌ أجش، أمتزجت به بحة حنين: “جماعة الرقة” وباللهجة الرقية الرقيقة “تعالم عندي”، كنا ثلاثة من الرقة، كل المعلومات حولنا كانت واضحة بالنسبة إليه، راح يسألنا: “شلون الرقة؟، شلون أهل الرقة؟”, لم يترك منطقة أو مَعلَم أو شارع إلا وسألنا عنه، وأخبرناه أننا نحن بدورنا نتسأل من هو؟ وراح يروي لنا قصته بأدق التفاصيل وكلنا آذان صاغية.
الاسم أبو العبد وهو الاسم الحركي له وهو عنصر من عناصر الجيش الحر، الأصل من مدينة الرقة السورية، ولدت في الرقة وعشت طفولتي وشبابي فيها، تزوجت واحدة من بناتها، ومع بداية الثورة السورية كنت في صفوفها هاتفاً بالحرية، حملت السلاح مبكراً في صفوف الجيش الحر، حتى أكرمنا الله بتحرير المدينة، شاركت في صد هجمات النظام عليها، إلى أن كان ذلك اليوم الأسود المشؤوم عندما سيطر تنظيم داعش على الرقة، معلناً إياها دويلة على حد زعمه اليوم ذاته الذي وقعت في أسيراً عند شر أهل الأرض، أطلقوا علي التهم من الردة عن الإسلام، إلى العمالة لكل شياطين الأرض.
بعد عدة أيام من وقوعي في أيدي التنظيم، تعرضنا للتعذيب والإذلال والضغط النفسي، كان المسؤول الأمني يدخل إلينا في المساء، واضعاً السكين على رقابنا ويطلق صياحات “الله أكبر”، ثم يضحك مردداً “بكرا بكرا مو اليوم”، أدرك جميعنا أنّه يستمتع بذلك الغباء، منتشياً بخوفنا، وبعد عدة أشهر، تكرر بشكل أسبوعي دخول مجموعة من الأمنيين علينا، طالبين منا أنّ نرتدي لباساً برتقالي اللون، ليضعونا في سيارة من نوع “بيك آب”، لنعرض في شوارع المدينة، مشهرين بنا على أنّنا عملاء مرتدين، يكمل أبو العبد بصوتٍ ملأته حشرجة خانقة: ” لم أكن أصدق تلك التهم التي كانت تنسب إلي وتذاع على الملأ، أنا وزملائي من رفاق السلاح، ما جعلني أصبر على كل ذلك هو نظرات أبناء الرقة إلينا كانت نظرات تملؤها التعاطف معنا وتكذب في نفس الوقت ما يشيعه التنظيم عنا، رأيت في عيون الجمع دعاءً لنا، كانت كفيلة بتخفيف ثقل الجدران في الزنزانة، مرت بضعة أشهر على سجني الذي كان مقره النقطة 11 والذي كان في وقت سابق مبنى للقضاء العسكري، كان يوم الخميس وبينما كنت جالسا فُتح باب السجن ونودي علي، وتم إبلاغي أنّ إعدامي سيكون في اليوم التالي، بعد صلاة الجمعة في إحدى ساحات الرقة، توجهت من بعدها لأتوضأ وصليت ركعتين لم أكن خائفاً حينها لأني كنت أعرف بأنني صاحب حق، ومن ثم هممت بقراءة آيات من القرآن الكريم، وأكثرت من الإستغفار، وما هي إلا لحظات حتى سمعنا صوت إنفجار مدوي وإذ ببعض جدران السجن بدأت تتداعى لأقوم من تحت الركام وأرى بعضاً من رفاقي قد استشهدوا، ومن خلال غبار الركام لم أستطع تمييز إلا بعض عناصر التنظيم الذي لاذ قسم منهم بالفرار، وبينما أنا في ذهول وإذ بيد أحد الأسرى تمسك بي، ركضنا إلى الخارج، قُتل صديقي برصاص أحد عناصر داعش، أصبحت أركض مسرعاً حتى وجدت نفسي أقترب من المدخل الغربي للمدينة، في البداية لم أكن أعرف أين وجهتي ومن ثم توقفت لوهلة أستجمعت بها قواي التي خارت نتيجة قطع المسافة والتي كان يرافقني فيها تذكر مشهد الدمار الذي لحق مكان سجني، وبعدها تابعت مسيري عبر القرى والطرق البرية مستعينا بالتهريب على الدراجات النارية من قرية إلى قرية وبمساعدة الأهالي إلى أن وصلت إلى مناطق سيطرة الجيش الحر في ريف حلب، لأتابع اليوم طريقي الذي سلكته في صفوف الجيش الحر.
افترقنا بعدها وإياه عند دخولنا الأراضي التركية، لأردد الدعاء له بالنصر، ويردد الوداع والتوفيق لنا.