الرقة تذبح بصمت
الأساطير هي التي تصنع العنف المقدس باسم الإله -أي إله- وتخليص البشرية، أي فقدان السيطرة والمضي قدماً في توحش لا يوقفه حد ولا يضبطه ضابط.
المشاهد التي يبثها تنظيم داعش لضحاياه وكأنهم يقدمون كأضاحي إلى مذابح مقدسة، يسيرون وهم خاضعون، وإلي جوارهم أفراد من التنظيم يمتشقون أدوات قتل بدائية في مشية تبدو وكأنها ذات طابع جنائزي يقول “نحن نقدم تلك القرابين اليوم لنكون نحن قرابين الغد للموت ولا شيء غيره” …. إنه العنف الأسطوري المقدس.
من هنا يضع “داعش” ضمن استراتيجيته استحضار أحاديث آخر الزمان، والتي تجعل من منطقة دابق التي تقع علي الحدود السورية ـ التركية، والتي كان يسيطر عليها التنظيم في حلب بشمال سوريا وتحررت في الاسابيع الماضية عبر عملية “درع الفرات”، حيث يقول أعضاء التنظيم “موعدنا دابق”، كما أن “دابق” هي الاسم الذي اختاروه لمجلتهم التي تصدر باللغة الإنجليزية، والتي تشير إلى تمكن في الإخراج والتصميم والتوظيف.
يعتبر داعش نفسه تجلياً لقدر الله المكتوب نحو نهاية للعالم، تتم من خلال أعمال عنف مقدس – في منظوره – ذات طابع وحشي لتقرب خاتمة الحياة الدنيا ونهايتها بمنظور قيامي يغلب النهايات الملحمية على أي منظور يمنح الإنسان أملاً في استمرار الحياة نحو صيغة أكثر عدلاً وإنسانيةً وإشراقاً.
في الحديث “لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق”، وقبل نزولهم بالأعماق يكون صلحاً بينهم وبين المسلمين فيقتلون عدواً من ورائهم، حتى يقول واحد من الروم غلب الصليب، أي أن الغلبة على العدو في القتال المشترك بين المسلمين والروم كان بسبب قوة جند الروم، فيرفض المسلمون ذلك وتقوم الحرب بين الفريقين، ثم تكون الملحمة في مدينة يُقَال لها دمشق فيها خير منازل المسلمين يومئذ.
وفي المواجهة الكبرى تلك بين الروم والمسلمين قبل نهاية العالم ونزول المسيخ الدجال ونزول عيسى بن مريم وقتله له، يأتي الروم تحت ثمانين غاية – أي راية كل راية تحتها اثني عشر ألفاً -، وهم على مواقع “داعش” يعتبرون اجتماع مجموعة العشرين في أنطاليا وقدوم القوات الخاصة الأمريكية لمساندة الميليشيات الكردية بل ومجيء الروس إلى سوريا.. كل ذلك دليلا لا يُخِيف “داعش”، وإنما يؤكد ما يطلقه في أساطيره بأن المعركة تكتمل نحو المواجهة الكبري التي يرى نفسه فيها قدر الله للقضاء على ما يعتبره حضارة عنواناً للتمرد على الله.
إن استحضار أحاديث آخر الزمان من قبل “داعش” يعكس محاولته طبع المقدس على العنف الذي هو في النهاية تأويلاتها التي تحل في عنفها الذي يبدو عنفاً ذاتياً كامناً في نفس وعقل من يديرونه بعيداً تماماً عن أي دين أو أخلاق أو منطق أو حضور إنساني، فيما لا يستحضر “داعش” فقط عنفه ضد أعدائه وضحاياه، ولكنه يمجد العنف الذي يوجه لأعضائه أنفسهم باعتبار ذلك تجسيداً للتعبير عن مهمة مقدسة أو مجيدة يقوم بها أعضاؤه
تنظيم “حزب الله” الأمر لديه مختلف تماما فهو يستحضر شخصية الحسين سبط النبي محمد “صلى الله عليه وسلم” وما تمثله في العقل الجمعي الشيعي من تضحية بالنفس في سبيل الخلاص لكنه يمزجها بأحاديث السفياني وهو الشخص الذي سيخرج محاولاً قتل الشيعة في آخر الزمان ولكنه سيخسر في الشام وينتصر الحق على الباطل ويكون مقدمة لخروج المهدي ” (وكفى بالسفياني نقمة لكم من عدوكم) معناه ان الوقائع التي ستقع ما بينه وبين أعدائه من غير أتباع أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ستصب من ثم في مصلحة الموالين لأهل البيت لان كل نقص يصابون به في الأنفس والأموال يعد ربحا ولان اختلافهم وتنازعهم خير من اجتماع بعضهم مع البعض الآخر ضد الحق وأهله.
أما قوله عليه السلام: (وهو من العلامات لكم) فمعناه ان السفياني وخروجه من الدلائل والعلامات التي تستدلون بها على قرب الفرج وظهور الإمام صلوات الله وسلامه عليه” (الغيبة للشيخ الطوسي: ص450)
وذلك لتبرير حربه “المقدسة ” في سوريا واليمن، حيث في أدبيات الشيعة أن السفياني سيخرج معه شخص من اليمن وآخر من خراسان وأنّ خروجه يسبقه فتنة “الثورات”، وكل ذلك مقدمة لظهور المهدي المنتظر مخلص البشرية في فقه الشيعة، وفي سبيل ذلك فإنّ الحرب “مقدسة” شعاراتها طائفية والقتال ليس دفاعا عن بشار وغيره “وهم في الواقع لا يفعلون سوى ذلك” ، بل عن فكرة نهاية العالم والخلاص وفي هذا فهم يتقاطعون في ذلك مع داعش.
لكن فرقاً هاما في التعاطي مع المذابح المقدسة بسبب وضع “حزب الله” المعقد سياسياً، عكس تنظيم داعش الذي يحارب لأجل استعداء العالم بشكل جلي لا لبس فيه ، فالجرائم لا تنشر بتبنِ مباشر من ميليشيات حزب الله خوفا من انزلاق الأمور في لبنان أو الظهور بمظهر المحارب للسنة عموماً وهو أقلية في هذه المنطقة ، لكنه يعمد إلى ذلك عبر التسريب الذي يبدو وكأنّه غير مقصود كما في مذابح القصير وأناشيد ولطميات مؤيديه وهذه الازدواجية مبررة تماما ولا تخلق له أي ارتباك في صفوف جمهوره ومقاتليه فالتقية هي من صميم العقيدة الشيعية الاثني عشرية.