الرقة تذبح بصمت
نفذ انتحاري صغير -١٣ سنة-٬ في آب الماضي هجوماً دموياً في حفل زفاف بمدينة غازي عنتاب التركية٬ فيما لم يتبنى تنظيم داعش ذالك الهجوم إلا أنّ الحكومة التركية أشارت بأصابع الإتهام نحوه كمشتبه وحيد٬ في تلك المجزرة التي راح ضحيتها نحو 50 قتيلاً و100 مصاب.
وقد ضلت تركيا خلال الثلاث سنوات الأخيرة أحد الأهداف الرئيسية لهجمات التنظيم، وقد صنفت تلك الهجمات إلى نوعين الأول: ما استهدف من خلاله التنظيم المصالح والشحصيات غير التركية على الأراضي التركية٬ كتفجيرات ساحة السلطان أحمد، وتفجيرات شارع الاستقلال، وأيضاً تفجيرات مطار أتاتورك٬ إذ كان المستهدفون يعودون لجنسيات عدة منها الألمانية والإسرائيلية٬ مع وقوع عدد من الضحايا في صفوف الأتراك المتواجدين في أماكن تلك العمليات بالصدفة٬ وقت وقوع الحادث. وتعود الأسباب الرئيسية لتلك الهجمات إلى السياسة الإجمالية لتركيا فيما يتعلق بالأحداث في سوريا، ودعمها لجماعات المعارضة السورية، وتعاونها مع الولايات المتحدة في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وكذلك التعاون المحتمل مع روسيا ضد المجموعة بعد ترميم العلاقات بين البلدين.
وتزداد وتيرة مثل هذه الهجمات مع ضعف التنظيم وزيادة قوته على حد سواء٬ إذ يحاول التنظيم التمدد في حالات قوته نحو خارج حدود سيطرته٬ كما يحاول زيادة الضغط بنقل الكرة إلى خارج منطقته عند زيادة الضغط عليه. في محاولة منه لإثبات أنه لا يزال قوة لا ينبغي الاستهانة بها، وذلك عبر تنفيذ المزيد من العمليات الإرهابية الدموية
أما النوع الثاني: والمعتمد على الهجمات التي يقوم بها التنظيم مركزاً أكثر على الأهداف التركية٬ بغية استهداف خطوط الصدع العرقية والطائفية التركية, كتفجيرات سروج وديار بكر وقطار أنقرة٬ وهجمات غازي عنتاب الأخيرة٬ مستهدفاً في مثل هذه الهجمات الأكراد المنضوين تحت اسم الحركة القومية الكردية كما أن هذه الهجمات ترتبط مباشرة بقتال التنظيم ضد المجموعات الكردية داخل سوريا والعراق؛ إذ إن الحرب الأهلية في سوريا وكذلك القتال الدائر بين تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني وذراعها السورية المتمثلة في وحدات حماية الشعب، كانا من العوامل الرئيسية لظهور عملية التحول إلى التطرف في تركيا.
كما أن الخروج عن مسار عملية السلام الكردية في تموز 2015 والحرب غير الموسعة التي تلتها، رفع من ديناميكية عملية التحول إلى التطرف، وبالمقارنة مع التصنيف الأول من تلك الهجمات فإن التصنيف الثاني يُظهر علامات تدل على استمراره، مما يتوقع أن يتسبب في عواقب طويلة الأجل.
وفي غضون تلك الهجمات وما يرتبط بها من تداعيات سياسية، يبدو أن تنظيم داعش يهدف إلى تغيير صفته من كونه تهديداً أجنبياً ليتحول إلى تهديد محلي ذي تداعيات مخيفة وبعيدة المدى.
انتقل تنظيم داعش بعملياته التي ينفذها في تركيا من نموذج العمليات العشوائية المتقطعة إلى نموذج أكثر تنظيماً ومنهجية.
وفي الوقت الذي يحاول فيه التنظيم تصفية حساباته مع حزب العمال الكردستاني في تركيا – الناتج عن الصراع في سوريا والعراق- يحاول أيضاً الاستفادة من مشاعر الاستياء ضد حزب العمال الكردستاني في مناطق كردية محددة؛ إذ إن عدداً كبيراً من الانتحاريين الذين نفذوا هجمات انتحارية ضد التجمعات الكردية، كانوا أيضاً من أصول كردية.
ولا تعد الخصومات داخل الأطياف الكردية أمراً جديداً، ففي عام 1990، دخلت جماعة تسمى حزب الله الكردي، التي يسود اعتقاد أنها مدعومة من عناصر داخل “الدولة التركية العميقة”، في صراع دموي مع حزب العمال الكردستاني، بعد اعتقال عبدالله أوجلان، قائد حزب العمال الكردستاني، في عام 1999، وما تلاه من إعلان الحزب وقف إطلاق النار إلى أجل غير مسمى، نفذت تركيا حملة مداهمات شرسة ضد حزب الله الكردي وقتلت قائده عام 2000، وشاركت بقايا تلك المجموعة في العملية السياسية المدنية فيما بعد، من خلال حزب الدعوة الحرة، المعارض الشديد لحزب العمال الكردستاني والمجموعات السياسية المنضوية تحت لوائه.
ولأن حزب الدعوة الحرة يدافع أيضاً عن الحقوق القومية الكردية، أخذ اختلافه مع حزب العمال الكردستاني بُعداً أيديولوجياً، وليس قومياً.
هيمنةُ حزب العمال الكردستاني على المشهد السياسي الكردي، أسلوبه الديكتاتوري الشديد، فضلاً عن مشروعة العلماني الموسع، كلها خلقت مزيداً من الشعور بالضيم بين أوساط مجموعات الإسلام السياسي الكردية، ويشكل ذلك الإحساس المتنامي بالظلم تربة خصبة للأصولية، ويدرك تنظيم داعش هذا الاحتمال جيداً ويحاول بقوة أن يستغله.
ويعني ذلك الأمر أن داعش تحاول اتخاذ موقع في الخلافات الكردية الداخلية؛ لذا فإن عملياته في تركيا صارت الآن أكثر منهجية وتركيزاً على مجموعات بعينها.
اما عن الحلول فلا يلوح في الأفق حل سريع للتعامل مع تهديدات داعش في تركيا، فالبلد سيظل عرضة لهجمات التنظيم مع اقتراب موقعها الجغرافي من موطن ولادته وقواعده الأساسية في سوريا والعراق.
هذا التهديد متجدد ويتطلب منهجاً متعدد الأوجه، ولهذا ينبغي أن تعطى الأولوية لاحتواء وتقليص مستوى التهديد الذي تستطيع الجماعة التسبب فيه، أملاً في أن يمهد ذلك الطريق أمام الحد من قدرته على إلحاق الضرر على المدى المتوسط والبعيد، وفضلاً عن عمليات تنفيذ القانون ومبادرات مكافحة الأصولية، ينبغي على الأطياف السياسية والمجتمع بأكمله أن يظهروا وحدتهم ومرونتهم في التعامل مع هذه الأزمة.
ومع الأخذ في الاعتبار أن تلك الهجمات ترمي إلى خلق كتلة سياسية ومجتمعية معارضة للنظام، فينبغي على الحكومة والمعارضة أن يتكاتفا ويتماسكا معاً مثلما فعلوا جميعاً أمام محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 تموز، بيد أنه ينبغي على النظام أيضاً أن يضيف حزب الشعوب الديمقراطي الكردي إلى المشهد.
وبدلاً من أن تمثل تلك الهجمات مجرد عرض مأساوي في المشهد الحالي، ينبغي أن تكون مذكرة ناجعة لأهمية السعي وراء الوصول لتسوية سياسية للأزمة السورية والقضية الكردية في تركيا.