الرقة تذبح بصمت – مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط
منذ دخول تنظيم داعش إلى محافظة الرقة، حاول التنظيم بث الرعب في قلوب المدنيين عن طريق عمليات الخطف وإخفاء الناشطين والإعلاميين وقادة وعناصر من الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية الأخرى التي لم تبايعه. وقد برزت وحشية تعذيب التنظيم لمعتقليه بعد قتله الطبيب حسين أبو ريان، مدير معبر تل أبيض الحدودي والمنتمي لحركة أحرار الشام الإسلامية، حيث أظهر التقرير الطبي للجثة كسراً للعنق والأضلاع ورصاصات في القدمين واليدين وقطع إحدى أذنيه. وقد خرجت من سجون داعش شهادات كثيرة حول وسائل التعذيب التي يستخدمها التنظيم مع السجناء، ومن أسوأ هذه الوسائل التعذيب النفسي، حيث يقول أحمد – وهو ناشط في حملة الرقة تذبح بصمت – عن هذا النوع من التعذيب
سجانو التنظيم كانوا يتحدثون باستمرار عن اقتراب موعد القصاص، فيدخل إلينا عناصر التنظيم ليضعوا السكاكين على رقابنا ويهددوا بقتلنا، وقد يأتي أحد العناصر برأس مقطوع لأحد المعتقلين متوعداً الأخرين بمصير مشابه.
ومن الوسائل الأخرى التي يستخدمها التنظيم هو نصب أقفاصاً حديدية تحوي جماجم بشرية في شوارع الرقة، وتخصيصها للنساء اللواتي تخالفن قوانينه وشرائعه، ويقوم بسجنهن فيها لليلة واحدة.
بجانب التعذيب النفسي، يستخدم التنظيم أيضا التعذيب الجسدي، وهذا النوع من التعذيب وسائله لا تحصى ولا تعد، وتعتمد بشكل أساسي على الجانب المظلم للإبداع الإنساني، الذي يقوم به السجان بحثاً عن إرضاء نفسه وأسياده، وانتقاماً من ضحيته. أوّل هذه الوسائل الجسدية للتعذيب الجلد، ويستخدمه التنظيم أثناء التحقيق مع الرجال والنساء المخالفين لقوانينه، كعقوبة متعارف عليها في تشريعاته، كما يستخدمه كوسيلة لاستخراج المعلومات والاعترافات من ضحاياه. وهناك أيضا وسيلة “الشبح،” حيث يقوم السجان بتعليق المعتقل من يديه لفترة زمنية قد تصل إلى أيام، وتؤدي أحياناً إلى فقدان المعتقل لقدرته على تحريك يديه أو خلع في المفاصل أو أذى في الضفيرة العضدية، والتي تنتج عنها حالات إعاقة دائمة في معظم الأحيان.
يضاف إلى هذه الوسائل الصعق بالكهرباء، حيث يقوم التنظيم باستخدامه أثناء التحقيق مع المعتقل دون الاهتمام بالمعايير أو قوة التيار الكهربائي التي قد لا يتحملها الجسد البشري، وقد يتسبب هذا الامر في موت عضلة القلب أو حروق في الجسد.
كما يستخدم عناصر التنظيم أيضا ما يعرف بـ العضاضة الحديدية في التعذيب. وهي أداة خاصة عرفت في العصور الوسطى وأعادها التنظيم إلى الاستخدام، وتتألف من فكين معدنيين يطبقان على جزء معين من جسد النساء غير الملتزمات باللباس الذي يفرضه التنظيم، ويخلّف استخدام هذه العضاضة ندبة دائمة للسجين.
من أدوات التعذيب الجسدي الأخرى التي يستخدمها تنظيم داعش في التعذيب الجسدي أيضا ما يعرف بـ بساط الريح، وهو عبارة عن سرير معدني بمفاصل في الوسط، يربط المعتقل به لينغلق مسبباً طياً قاسياً للجسد، قد ينتج عنه كسور في العمود الفقري للضحية أو في أضلاعه.
الخصائص النفسية للمعذِّبين
التعذيب هو عمل شنيع يشترك فيه الشخص الذي يقوم بالتعذيب والشخص الذي يأمر بفعل التعذيب، هذا الأخير في الغالب هو قائد أو أمير طبقاً لهيراركية الألقاب في داخل تنظيم داعش. ويتميّز الطرفين في هذا السياق بعدة صفات. ليس شرطاً أن تتواجد جميعها في كل من يقوم بالتعذيب، وذلك بحسب الدراسات النفسية لعالم النفس فيليب زيمباردو، واعتماداً على الدراسات النفسية لعدد من الجامعات والمراكز المهتمة بدراسة التعذيب.
من أهم الصفات في هذا السياق السادية، وتعني استمتاع الشخص برؤية الآخرين وهم يتألمون، وحصوله على نشوة نفسية (وأحياناً جنسية) من تعذيبهم، وهو ما يعتبر اضطراباً شديداً في الشخصية، يجعلها تسعى نحو إذلال الآخرين والتنكيل بهم، ومثال على ذلك أبو علي الشرعي وهو عراقي الجنسية، وأحد أهم جلادي التنظيم وشخصياته القيادية، إذ عُرف عنه تفاخره بقتل مئة شخص في الأشهر الأولى من سيطرة التنظيم على مدينة الرقة.
كذلك يُعرف عمّن يمارسون التعذيب صفة المسايرة والاسترضاء، كما وصفها عالم النفس فيليب زيمباردو – المعروف بإجراء تجربة اختبار سجن ستانفورد الشهيرة وصاحب نظرية Lucifer Effect. الذين يقومون بالتعذيب يستجيبون لأوامر رؤسائهم استجابة تتسم بالاستلاب والخضوع، ولا يناقشون هذه الأوامر ولا يعرضونها على عقل واع أو ضمير حي، ولا يبدون أي اعتراض أو تفكير، ولعل سبب هذه الطاعة العمياء هو الذكاء المحدود والثقافة الضحلة والشعور بانعدام الأمن، الأمر الذي يجعل إقناعهم سهلا، والإيحاء لهم بأن ما يفعلونه فيه مصلحة للبلد أو للبشرية أو لقضية ما، فيقومون بتنفيذ أوامر التعذيب دون تفكير. وتتماشى هذه الصفة مع مبدأ “الطاعة الكاملة” للخليفة أو القائد أو الرتبة الأعلى طبقاً للترتيب الهرمي المعمول به ضمن التنظيم، حيث يعمل التنظيم على تكريس هذا المبدأ في نفوس جميع عناصره ، ابتداءَ بالسجون وانتهاء بالمعارك، مستخدماً الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مثل الآية ٥٩ من سورة النساء ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ” معززاً بالمقولة المشهورة في داخل الجيوش النظامية “نفذ ثم أعترض” مع التأكيد على أن الاعتراض هو إثم وخروج عن الدين.
أمّا الصفة الثالثة فهي الشخصية السيكوباتية المستهينة بالمجتمع، وهذا النوع من الشخصية مضادة للمجتمع لا تحترم قوانينه ولا قيمه ولا أعرافه، وهي شخصية عدوانية لا تعرف الإحساس بالذنب أو الندم ولا تتعلم من تجاربها السابقة، ولا تعرف الشفقة أو الرحمة أو العدل أو الكرامة، وكل ما يهم هذه الشخصية هو تحقيق أكبر قدر من اللذة، حتى لو كانت هذه اللذة مبنية على أكبر قدر من الألم الذي يصيب الآخرين. يقول صالح وهو أحد الشباب الذين خرجوا من سجون التنظيم مؤخرا “كان السجان يقوم بضربي وهو يضحك قائلا يا كافر.”
الصفة الرابعة البارانويا، وهي شخصية ترى في الجميع أعداءً لها، وتتوقع النوايا والأفعال السيئة من الناس، لذلك فهي تتسم بسوء الظن وتلجأ إلى العدوان الاستباقى أو الوقائي، وتبرر هذا العدوان بأنه لحماية نفسها أو غيرها من الإرهاب أو الأذى المتوقع من الأخر، ويؤدي الخوف الشديد إلى احتقارا للآخر والالتجاء إلى مصدر للأمن، فيحاول تنظيم داعش القيام بذلك الدور – الحامي – لاجتذاب هذه الشخصية.
أمّا التبرير وهو الصفة الخامسة، فيعدّ أحد الدفاعات النفسية التي يستخدمها المعذِّبون لكي يقوموا بالتعذيب وهم مرتاحو الضمير، فمثلاً يعتبرون التعذيب وسيلة مشروعة لتحقيق الأمن لبقية الناس، أو لانتزاع اعترافات مهمة تؤدي إلى تحقيق السلام (في نظرهم أو نظر آمريهم وقادتهم)، فهم في النهاية يربطون التعذيب بقيم وطنية أو أمنية.
الآثار النفسية للتعذيب
تتوقف تلك الآثار النفسية على شدة التعذيب وتنوعه، وتتوقف أيضاً على شخصية من يقع عليه التعذيب وعلى وجود وسائل دعم بعد تخلصه من التعذيب. وبشكل عام يمكن أن نوجز هذه الآثار في مظاهر عدة، أولّها، انهيار القيم والقناعات البديهية الأساسية لدى الشخص الذي يتعرض للتعذيب، والذي كان يعتقد فيما سبق أن للجسد حرمة وللنفس حرمة وللإنسانية كرامة، وكان يعتقد في وجود الرحمة والشفقة والعدل، ولكن بعد التعذيب الشديد تهتز كل هذه الافتراضات، وتهتز معها ثوابت كثيرة وقيم متعددة، ويهتز بنيانه النفسي بأكمله، ويعيش سنوات بحثاً عن صيغة جديدة تفسر ما حدث، وتساعده على استيعابه في بنائه الفكري والوجداني، ويعيش ما تبقى من عمره بقايا إنسان، خاصة إذا كان طفلاً أو شاباً صغيراً.
الأثر الثاني هو اضطراب ما بعد الصدمة post-traumatic stress disorder الذي يصيب من شهدوا أحداثاً مروعة عرضتهم للإيذاء والتهديد الشديد لحياتهم أو سلامتهم. هنا نجد الشخص يستعيد ذكرى التعذيب في أثناء يقظته وأحلامه وكأنه شريط سينمائي. وكلما رأى أو سمع شيئاً يذكره بهذه الأحداث فإنه يشعر وكأنها تحدث في اللحظة، وهو يحاول تجنب كل ما يذكره بها.
هذه التأثيرات يمكن أن تحدث بالتزامن مع الاكتئاب، وهو ما يحدث حين يشعر الإنسان الذي تعرض للتعذيب بفقد الحيلة والأمل في القصاص وضياع كرامته. تتباين صفات الاكتئاب حسب الفرد ووضعه، ولكنها معروفة وفيما بينها الحزن، حيث يصاب الشخص بحالة من الحزن وفقد الشهية للطعام ولكل شيء، وعدم الإحساس بمعنى الحياة واضطراب النوم، وربما تساوره بعض الأعراض العقلية كأوهام الاضطهاد أو الهلاوس، إضافة إلى الاضطرابات النفسية والجسدية التي تأتي في صورة اضطرابات في الجهاز الهضمي أو الجهاز الدوري والقلب أو الجهاز التنفسي أو الجهاز التناسلي أو غيرها، وهذه الاضطرابات تأخذ صورة الأعراض الجسمانية المختلفة.
إن التعذيب دائرة شرسة، تتصف بالعنف في كل مراحله، ولا يُستهان بعلاج هذا العنف والشفاء منه، وسيعاني منه المجتمع السوري لسنوات عديدة، لأن تأثير التعذيب ليس الألم الجسدي فقط، وإنما المشاكل النفسية التي تنتج عنه بالنسبة للذي يقوم بالتعذيب والذي يتعرض للتعذيب، ومن ثم يعاني المجتمع الأكبر، حيث تظل الرغبة في الانتقام من المعذِّبين قائمة، وهذا بالطبع قد يؤدي إلى مزيد من العنف.
يبدأ العلاج بالوعي بآثار التعذيب والاستعداد لدعم الذين عانوا من منه، ولابد من تصميم آليات لتحقيق العدالة الانتقالية، تماما كما فعل الشعب في جنوب أفريقيا بعد انتهاء سياسة الفصل العنصري (الأبارتيد) عن طريق لجنة الحقيقة والمصالحة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.