خاص – الرقة تذبح بصمت
أعلنت قيادة القوات المشتركة العراقية في الثالث والعشرين من مايو/ أيار الفائت، بدء عملية “تحرير” الفلوجة، إحدى أهم معاقل تنظيم “داعش” في محافظة الأنبار، وبعد ثلاثة وثلاثين يوماً من ذلك، وتحديداً في السادس والعشرين من شهر حزيران/يونيو الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن تحرير الفلوجة من داخلها، رافعاً العلم العراقي وقائلاً:” كما وعدناكم …هذا هو العلم العراقي مرفوع عاليا في الفلوجة.. فعلناها سابقا في تكريت والرمادي وجرف الصخر وسنرفعه أيضا في الحويجة والموصل”.
في المقلب الآخر، لايزال التنظيم المتطرّف يتحصّن داخل مدينة منبج السورية التي تحاصرها من الجهات الأربعة “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة جوياً من التحالف الدولي، والمطعمة بمستشارين عسكريين فرنسيين ــــ ألمان لإسنادها وتقديم المشورة العسكرية والتخطيط العملياتي لتحركاتها، وهذا ما حدا بـ “بريت مكجورك” مبعوث الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى اعتبار أنّ العمليات العسكرية الدائرة هناك ستهيئ الظروف والمناخ الملائم لبدء الزحف على الرقة، فقال للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي: “عملية منبج.. إنها جارية حاليا وتشهد قتالا شرسا وبمجرد استكمالها فإن هذا سيهيئ الظروف للتقدم إلى الرقة”، إذن مسألة خروج التنظيم المحاصر من المدينة لم تعد إلاّ مسألة وقت أو ربّما لا يريد التنظيم الإيحاء لمناصريه ومنتسبيه أنّه في موقع ضعف وانهزام، لذا يحاول التحصّن واستخدام المدنيين المحاصرين معه كدروع بشريّة تؤّخر من مواقيت الهزيمة القادمة.
من ناحية آخرى لا تزال التخوّفات من أبعاد السيطرة المأمولة على مدينة منبج حاضرةً وبخاصة بعد التجربة سيئة الذكر في تل أبيض، المدينة الحدودية التي تسيطر عليها وحدات الحماية الشعبية ــ المكون الرئيسي والفاعل ــ لقوات سوريا الديمقراطية، فموقع ديلي بيست الإخباري الأمريكي تساءل في تقرير مطوّل له عن المآلات والمصائر التي ستلاقيها المدينة، فطرح السؤال التالي: “من الذي سيحكم تلك المدن الآن؟ هل الأكراد الذين قادوا المعارك ضد تنظيم الدولة؟ أم من ظل بعض المسؤولين في البنتاغون يطلقون عليهم في الخفاء اسم القوات “الرمزية العربية” التي دربتها الولايات المتحدة لمرافقة الأكراد؟”، هذه السؤال برسم الإدارة الأمريكية التي تغضُّ الطرف دوماً عن مطامح حزب الاتحاد الديمقراطي المُعلنة، وعن الانتهاكات التي ارتكبتها قواته في العديد من المدن والأرياف السوريّة التي استولت هذه القوات أثناء قتالها مع “داعش”، ويخشى في حال تكرّرت الممارسات السابقة في كلّ من تل أبيض والحسكة وريفهما، أن تزيد الحساسيات والتوترات الطائفيّة وتولد نزاع كردي ـــ عربي يطول أمده!
وبالعودة إلى المعركة مع “داعش” في شقِّها العراقي، فإنّ خسارة الفلوجة تعدّ واحدة من أقسى الضربات التي تلقاها التنظيم منذ تأسيس “خلافته” في العام 2014 وبسطه السيطرة على أراضي واسعة في العراق وسورية، لكنّ الأحداث المُصاحبة والمرافقة لمعركة تحرير الفلوجة، والهيجان الطائفي المقيت الذي نشرته ميليشيا الحشد الشعبي عبر الفيديوهات التي انتشرت في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أو التصريحات المتواليّة لقادة هذه المجاميع ذات الصبغة المذهبية، تجعل من عملية الخلاص من “داعش” فعلاً غير ناجز، فالمدنيون الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة التنظيم وسندان الميليشيات الطائفية، وحالات التعذيب والانتهاكات الموصوفة بحقهم هناك؛ ستجعل هذا النصر انتصاراً مرحليّاً وستعزز افتراضات “داعش” وادّعاءاته المتكرّرة -ـبأنّه الضامن الوحيدُ- والمدافع الحقيقي عن حقوق “العرب السُنّة”، وبالطبع أعطى تواجد قاسم سليماني مع الحشد الشعبي خلال هذه المعركة إشارات سيئة وإيحاءات بأنّها جزء من عملية الاستلاب والاستحواذ الإيراني على المنطقة وبخاصة بعد الاتفاق الأمريكي- الإيراني الذي يعتبره الرئيس الأمريكي ـــ الإنجاز الأبرز والأهم ـــ إبّان فترة حكمه الآيلة للانتهاء، وبالطبع ستكون الأنظار مُوجّهة تجاه الموصل المعقل الأهم لـ”داعش” في العراق، وهناك ستظهر التحديّات المختلفة في وجه القيادة العراقية وداعميها الأمريكان والتي تتمثّل في تأمين أكثر من مليون مواطن عراقي يقطنون المدينة وتلبية احتياجاتهم الإنسانيّة وتأمين حياتهم، وأيضاً إبعاد الميليشيات الطائفية المذهبية المدعومة من إيران والتي تعتبر المدنيين أهداف مشروعة لها، وتسبغ عليهم صفة الإرهاب حتى لو كانوا نساءً أو أطفالاً، ولن تكفي الغارات الجوية التي بدأت بالفعل على مواقع التنظيم فيها وبالتالي ستشكل اختباراً حقيقياً لمدى فاعليّة وجاهزية القوات العراقية على الأرض، وسنرى جدية وصدقيّة تصريحات الجنرال “روبرت أوتو” التي قال فيها: “التحدي هو إيجاد أهداف للغارات بحيث لا نلحق الضرر بالمدنيين دون قصد”.
بالطبع هذه الخسارات الموجعة والمؤلمة التي يتلقّاها التنظيم، لن تثنيه عن ارتكاب المزيد من الأعمال الإجراميّة خارج الحدود وآخرها التفجيرات التي ضربت الشريان الحيوي لتركيا (مطار أتاتورك والتي خلّفت أكثر من 42 قتيلاً و 239 جريحاً)، وجاءت في إطار مساعي داعش لإظهار قوته على إرهاب أعدائه وضربهم بالمكان والزمان اللذين يختارهما، فالرسالة المراد توجيهها أنّ طرده من المدن والحواضر الرئيسية التي كان يسيطر عليها ليست كافية لهزيمته وإعلان النصر عليه، هزيمة التنظيم تكمن بإزالة الأسباب والمظالم التي ساهمت بصعوده وليس بشنّ غارات انتقاميّة على الأبرياء في الرقة وغيرها أو التفاخر بأنّ أيامه باتت معدودة هو الآخر!