الرقة تذبح بصمت
في الكلمة الصوتية الأخيرة للمتحدّث باسم “داعش”، بدا العدناني وكأنّه يحضّرُ أنصارهُ للمرحلة القادمة والتي تبدو إنّها فترة انحسارٍ وتراجع في الأراضي التي كسبها التنظيم في العراق وسورية وليبيا، العدناني في كلمته التحضيرية حاول استباق المعارك التي أُعلنت أو التي ستُعلن لاحقاً لهزيمة التنظيم في المدن والمواقع الاستراتيجية التي يسيطر عليها وقلّل من شأنها ومن إمكانيّة خسارة داعش لهذه المدن وبالخصوص عندما قال: «الخسائر والهزائم ليست بخسارة مدينة أو خسارة أرض ! ولم نهزم عندما خسرنا المدن في العراق وبتنا في الصحراء بلا مدينة أو أرض !! ولم تخيفنا جيوشكم وجموعكم لن تثنينا تهديداتكم وحملاتكم لن تنتصروا أبدا وإنكم مهزومون، وهل سنهزم وتنتصرين اذا أخذتي الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن وعدنا إلى الصحراء كما كنا ولم تنتصروا بالرغم من كل الأموال والجنود التي خسرتها أمريكا في حربها ضدنا».
من يتتبع خارطة المعارك الجارية في الفترة الأخيرة ضد “داعش” على الجبهات الثلاث (سورية – العراق – ليبيا )، بإمكانه بكل يَسرُ وسهولة الربط بين الكلام الانهزامي ــ الاستباقي في كلمة العدناني وبين خارطة السيطرة لداعش والتي تتقلّص يوماً بعد يوم، بإمكاننا أن نصفَ وضع التنظيم من الناحية العملياتية والعسكرية؛بإنّه الأسوء منذ إعلان خلافته في العام 2014.
في ليبيا وقبل شهر بدأت حكومة الوفاق الوطني المدعومة من المجتمع الدولي معركة “البنيان المرصوص” والتي تستهدفُ تطهير مدينة سرت الليبية من تنظيم “داعش”، مدينةُ سرت ذات الواجهة البحرية والموقع الاستراتيجي الهام، كانت المعقل الأهم للتنظيم في ليبيا والكل يتذكّر الاستعراض الشهير لموكب السيارات التي تحمل علم التنظيم في دلالة على قوة التنظيم وتوسعه الجغرافي حينذاك، إضافة ًإلى أنّ تواجدهُ على ساحل المتوسط المقابل لأوروبا شكّل تهديداً ومنفذاً سهلاً لشنِّ عمليات ضد دول أوروبا، اليوم وخلال أسابيع قليلة خسر تنظيم “داعش” كل النقاط والمرافق الحيويّة في المدينة ( المطارــ الميناء) وبات محاصراً في رقعة لا تتجاوز خمسة كيلومترات مربعة داخل الأحياء السكنيّة، لكن كعادته في اعتماده التكتيكات العسكرية الخاصة به ( القناصة ــ السيارات المفخخة ـــ العبوات الناسفة ) والتمترسُ داخل الأحياء السكنية لتلافي القذائف المدفعيّة والقصف الجوي الذي يرافق العمليات التي تُشن في الغالب ضد التنظيم، ولكن هذه التكتيكات ماهي إلاّ محاولات تأخيريّة أو خطوات عاجزة لتأجيل سيطرة القوات المهاجمة على أي بقعة يتحصّن بها التنظيم، أو مناورات أخيرة تسبقُ عادةً قرارات الانسحابات التي تصدرُ من القيادات العسكرية العليا للتنظيم.
في المقلب الآخر، بدأت القوات العراقية والميليشيات الشيعية في الثالث والعشرين من مايو/أيار الماضي عمليةً لانتزاع مدينة الفلوجة من يد “داعش”، الفلوجة الاستراتيجية التي تقع غربي العاصمة العراقية بغداد وتبعد عنها حوالي 60 كيلومتراً ولها أهمية ميدانية خاصة وتعتبر من أهم معاقل التنظيم في محافظة الأنبار، وعلى الرغم من مضي أسابيع أربعة على بدء هذه العمليّة إلاّ إنّ المعركة لم تحسم حيث لازالت الاشتباكات على أشدها في جنوبي الفلوجة وخاصة في حي الشهداء الاستراتيجي حيث حرب الشوارع على أشدها ومن أبرز تمظهراتها هناك؛ استخدامُ منازل المدنيين لكشف مواقع الطرف الأخر والتعرّف على مواقع إطلاق النار، الوضع ذاته ينطبق على عامرية الفلوجة والمواقع الهامة هناك حيث القتال يشتدُّ هناك للسيطرة على المناطق القريبة من الفلوجة والقريبة من الجسرين الواصلين بين ضفتي الفرات.
بالطبع هذه العمليات تخلّلها انتهاكات موصوفة قامت بها المليشيات الشيعية ذات البعد المذهبي والتي يمكن التأكد منها أيضاً من خلال الصور والمقاطع الفيليمة التي تمَّ تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي حيث ورد فيها عبارات طائفية أثناء إطلاق الصواريخ المتوجهة لمدينة الفلوجة، وظهرت عمليات إذلال بحق أهالي الفلوجة واعتبارهم “دواعش”، الحكومة العراقية نفت هذه الاتهامات لكنّ الرئيس العراقي فؤاد معصوم في لقاء مع قناة BBC العربية أقرّ بوجود هذه الانتهاكات لكنّهُ اعتبرها فردية وغير مُنظّمة على حد وصفه، وأكدّ هذه الفرضية تصريحات محافظ الأنبار” صهيب الراوي” الذي أفاد بإعدام 49 رجلاً سنياً استسلموا للحشد الشعبي المرتبط بإيران بينما ظهرت معالم تعذيب جماعي وبوسائل مختلفة على أجساد الناجين. هذه الانتهاكات الصارخة بحق المدنيين الأبرياء دفعت بواشنطن بالتهديد بإيقاف الدعم العسكري المُقدّم للقوات العراقية في حال دخول الحشد الشعبي إلى المدينة، كلُّ هذا يُصِعّب إنهاء معركة الفلوجة والقضاء على التنظيم فيها بسبب الأعمال الطائفية البغيضة وهذا ما يعزّز ادعاءات التنظيم للسكان المحليين بأنّه الضامن لأمنهم ويحميهم من قوات غازية تريد الانتقام منهم على خلفيات مذهبيّة ــ طائفية بحتة.
أما في سوريّة المجاورة يبدو الوضع أكثر تعقيداً بسبب تعدّد الأطراف الفاعلة والمؤّثرة على سير المعارك والعمليات العسكرية على الأرض، ففي هذا السياق تمّ الإعلانُ عن معركة “تحرير الرقة ” من قبل الكيان اللذي يُعرف بــ “قوات سوريا الديمقراطية” في الرابع والعشرين من مايو/ أيار الماضي حيث كانت أنظار العالم مُوجّهة ً صوب الرقة وخاصة بعد الإعلان الأمريكي عن الدعم اللوجستي بوصول المئات من المقاتلين الأمريكيين لقاعدة رميلان الجوية شمال شرق الحسكة، وزيارة الجنرال الأمريكي جوزيف فوتيل والذي يُعتبر أرفع مسؤول أمريكي وطأت قدماه التراب السوري منذ اندلاع الثورة السوريّة في العام 2011، كانت تلك التطورات المتسارعة والمتلاحقة في إطار التحضيرات للمعركة المُرتقبة، التي سرعان ما تبيّن أنّها لم تكن إلاّ في إطار الحرب الدعائية ضد التنظيم حيث اقتصرت على معارك محدودة مع “داعش” في ريف الرقة الشمالي، وفي غمرة الادعاءات والتعبئة الإعلامية، انتقلت المعركة فجأة ًصوب منبج والتي تُعتبر من المناطق الحيويّة والهامة لوحدات الحماية الشعبية (YPG) / الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني في سورية والمُتحكِّم الحقيقي بقوات سوريا الديمقراطية، حيث تسعى قيادة هذه القوات إلى السيطرة على الشريط الحدودي مع تركيا ووصل الكانتونات الثلاث (الجزيرة ـــ كوباني ــ عفرين ) بعضها ببعض، لذا فضلّت مع حلفائها الأمريكيين خوض هذه المعركة وتطعيمها بعناصر من مدينة منبح تقاتل تحت مُسمى”المجلس العسكري لمنبج” وبدأت هذه القوات المرحلة الثانية من عملية السيطرة على المدينة، فالتنظيم محاصر داخل مدينة منبج بعد حصاره وقطع كافة الطرق الدولية بين المدينة وباقي المدن السوريّة، بالطبع يدفع المدنيون الثمن الباهظ حيث قدّرت الأمم المتحدة عددهم بـ 100 ألف مدني محاصرين داخل المدينة، يعانون من تحكّم تنظيم داعش بمصيرهم وخاصة إنّ القوات المهاجمة لم تترك طريقاً يستطيعوا الفرار والنجاة بأنفسهم من هذه المعارك الجارية.
بالطبع لم يفوّت نظام الأسد فرصة إثبات وجوده في “الحرب على الإرهاب” حيث تقدّمت قواته تحت غطاء ناري كثيف تجاه مدينة الطبقة ووصلت إلى قرية صفيان التي تبعد عن ” مطار الطبقة العسكري” 15 كيلومتراً وعن مدينة الرقة قرابة الـ 45 كيلومتراً وسيطرت على حقل صفيان النفطي، وعلى الرغم من إعلان الروس الداعمين للنظام السوري والأمريكيين الداعمين لقوات سوريا الديمقراطية التنسيق بينهما بخصوص التعاون في مكافحة الإرهاب ومعركة الرقة، تبدو الأمور أكثر تعقيداً وتصبح الأطراف المختلفة في سباق نحو الظفر بالرقة لتحقيق غايات استراتيجية ومكاسب على الأرض تحسّن موقف كل طرف في الصراع الدائر في سورية.
هذه النظرة توضّح وتؤكد ما قيل أعلاه عن تحضير التنظيم وتهيئة نفسه للخسائر القادمة، وهذا ما ذكره العدناني صراحةً في كلمته الأخيرة، إلاّ إنّ الأقاويل التي تتحدّث عن القضاء على التنظيم بشكل نهائي ليست دقيقة، فرغم كل هذا الضغط غير المسبوق عليه، يواصل شنّ عملياته الإرهابية خارج الحدود ومنها محاولة اغتيال الناشط الإعلامي” أحمد عبد القادر” رئيس تحرير جريدة عين على الوطن في مدينة أوروفا التركية، وتبنّي التنظيم للهجوم المسلّح على ملهى ليلي في مدينة أورلاندو الأمريكية وأخيراً إعلان مسؤوليته عن الهجوم الذي استهدف نائب رئيس شرطة ليمبرو الفرنسية وزوجته، في محاولة من التنظيم التغطية على الانتكاسات والتراجعات العسكرية التي تُمنى به قواته ولإظهار أنّه لا يزال قادراً على ضرب الخصوم في الزمان والمكان اللذين يختارهما.