خاص – الرقة تذبح بصمت
تكاد خطوات المستبديّن وطرائقهم تكون واحدة، ومن يتتبّع سِيَر الطغاة ودأبهم على مختلف العصور، لا يكاد يلحظ الفروق الجوهريّة التي تميّز طاغيةً عن آخر، فهم على اختلاف عقائدهم الإيديولوجية ووسائل تثبيت سلطانهم، يتلاقون على قمع المحكومين وتكميم أفواههم ولا يعدمون الحجة أو الوسيلة في تبرير كلَّ الجرائم أو الأعمال القذرة التي تبقيهم على كرسي الحكم والسلطان.
بعد الحديث المتزايد عن “معركة الرقة” وتعدّد الجهات الدولية التي تريد من هذه المعركة نصراً استراتيجياً لها في “الحرب على الإرهاب” وكي تكسبَ نصراً عسكرياً يثبّت موطئ قدم لها في الأرض السوريّة، حيال ذلك لم يجد قادة “داعش” إلا إصداراً خاصاً لا يتحدّث كعادة التنظيم عن إنجازاته العسكريّة ضد الخصوم أو مقاطع فيليمية لإعدام الرهائن والأسرى لديه؛ بل خصَّص إعلاميّو “داعش” إصداراً خاصاً لإعلان الحرب على الأطباق الفضائية المعروفة محليّاً بــ”الدش” أو “الستالايت”، فيظهرُ أحد قادة داعش بجوار البحيرة التي يحجزها سد الفرات خلفه، واضعاً سلاحه أمامه ومتحدّثاً عن خطورة الحرب الإعلاميّة التي تتعرض لها “الدولة” كما يسمّيها عناصر التنظيم ومناصروه. يبدأ هذا الإصدار بمقاطع تظهر عمليات شنّها التنظيم ضد أعداءه في إطار الحرب الإعلاميّة التي يدرك أهميتها، لكن يبدأ المعلّق على الفديو حديثه عن الحرب الإعلامية ــ النفسيّة المُخاضة ضد التنظيم بجانب الحملة الدولية(الصليبية) كما يسمّيها هو، وتظهر صور لقنواتٍ تمارس عليه هذه الحرب (الجزيرة ــ أورينت) وغيرها، مع إنّ بعض مؤيدي الأسد وجهات أخرى تعتبر هذه القنوات منصات دعائية لداعش وتسبغ عليها صفة “الداعشية”.
على صعيدٍ أخر واتساقاً مع الديماغوجيا التي يعتمدها تنظيم داعش، يبدأ المُتحدّث خطبته الحماسية ضد “الدش” وهي مشابهة في طريقتها للبروباغندا التي كانت تعتمدها الأنظمة القومية العربية من خلال الخُطب الحماسيّة التي عادةً ما تشوّه الحقائق وتسعى لبثِّ خطابٍ كاذب لتبرير الأفعال التي تقوم بها السلطة وهذا ما فعله “الداعشي” ـــ وإنْ كان يستند إلى سلاحه ـــويشهر القرآن الكريم بوجه الكاميرا في محاولةٍ لإضفاء شيء من الصدقيّة على حديثه عن المفاسد والمصائب العِظام التي تسبّب بها “الدش” فهو يقول في خطبته عن أخطار “الستالايت”:
(( فوالله ما تنفس أعداء الله ولا طالت ألسنتهم ولا اختصروا الطريق على عقول الناس إلاّ من خلال هذه القنوات العفنة، هذه القنوات التي تكذب على الله ورسوله والمؤمنين بالليل والنهار وأصبح كثير من الناس الحقيقة من مخرجات هذه القنوات))، إذاً هذا الخطاب الدعائي الذي يحصرُ مشكلة المسلمين فقط في السموم التي تبثّها هذه القنوات وكأنّ مشاكل المسلمين حُلّت جميعها واندثر الفقر وولى وزال الظلم وبات أمراً منسيّاً، فلم يعد أمام العموم شيء يلهيهم إلاّ هذه القنوات، وبالطبع هذا الخطاب ليس إلاّ خطاباً انهزامياً لتغطية خسائر داعش الأخيرة وانسحاباته وهزائمه المتكرّرة سواءً في العراق أو في سوريّة ودليلاً على الإفلاس ومظهراً من مظهراً من مظاهر الضعف والاندثار، فهو يتذرع بحجة حماية المسلمين وبيوتهم من المفاسد والمخاطر، لكنّه يريد من هذا القرار حجب أخبار انكساراته العسكريّة أمام الناس وتجهيلهم بحقيقة ما يحدث، والتعتيم على عناصره وخاصة الصغار منهم الذين يزجهم في المحارق والمعارك الخاسرة، وهذا الخطاب يتلاقى في حيثياته مع خُطب المذيع المصري الشهير “أحمد سعيد” الذي كان يحرّف الأخبار من إذاعة “صوت العرب” ويعد العرب بأنّ جيش مصر على أعتاب انتصار ساحق، بينما كان العرب يتلقّون واحدةً من أفظع الهزائم وأقساها وهي نكسة حزيران في العام 1967 والتي انتصرت فيها إسرائيل على سورية ومصر والأردن وسيطرت بشكل كامل على ما تبقّى من فسلطيين المحتلة.
الأنظمة التوتاليتارية ” الشمولية” تتشابه بطبيعتها ــوإنْ اختلفت الإيدولوجياــ التي يتسندُ إليها الحاكم في تثبيت حكمه سواءً أكانت دينية وتستمد شرعيتها من الدين كما هو الحال لدى “داعش” أو مستندة إلى خطاب القومية والاشتراكية وتحرير فلسطين كما هو الحال لدى نظام الأسد والذي اعتمد إعلامه طويلاً على الخطاب الكاذب واختلاق الحجج والأعذار لتبرير السياسات القمعيّة الاستبدادية؛ وهنا يُذكر أنّه في منتصف تسعينيات القرن الماضي بدأت “الدشات” بالدخول إلى سوريّة وأصبح ميسوري الحال يقتنونها، ويتعرفون بالطبع على قنوات غير إعلام السلطة المُوجّه الذي يسبّحُ بحمد الرئيس ليل نهار وبالتالي بإمكانهم كسر الطوق والتعرّفُ على عالم لا يريد النظام للسوريّين أن يعرفوه، وهذا ما حدا بالأجهزة الأمنية في ذلك الزمان أن تلاحق هذه الأجهزة وتمنعها أو تأخذ رشى و أتاوى ممن يركّبها في بيته وكإنّها معجزة خارقة لا يجوز اقتناؤه.
قرارُ داعش الأخير يتلاقى ضمنياً مع ممارسات نظام الأسد، فكلاهما يؤمنان بأنّ المحكومين لا يصدّقان زَيف ادعّاءاتهم والأخبار التي تحضّرها الماكينة الإعلاميّة الخاصة بهما، فهما يريدان أن يبقى الناس مُتوجّهين إلى ما تبثُّه منصاتهم الإعلاميّة، ويريدان من الشعب أن يستمعَ إلى خُطب الخليفة العصماء وأقوال الرئيس المُفدّى، وكلّ شيء خلا ذلك هو كفرٌ بواح أو مؤامرةٌ تستهدف عرين المقاومة وحصنها الأخير.