الرقة تذبح بصمت
لم يكنْ كافياً لأبناءٍ الرقة ودير الزور مصائبهم التي لا يستطيع المرء حصرها أو تَعدادها، بل زاد في الطنبور نغماً كما يقول المثل العربي الشهير؛ إصدارُ ما يُسمّى الهيئة الشرعية لمدينة إعزاز مؤخّراً قراراً يقضي بمنع دخول أبناء المحافظات الشرقية إلى مدينة إعزاز وريفها وهو تعبيرٌ اُصطلح سابقاً ويشير إلى أبناء محافظتي الرقة ودير الزور التي ترزحان تحت احتلال تنظيم «داعش» والذي بات القاصي والداني يعرف ما يعاني السكان هناك جرّاء ممارساته وأفعاله التي لا تّتسق مع أي منطق أو تراعي الحاجات الإنسانية والمعاشية لمن اضطرّتهم الأقدار أن يرزحوا تحت حكمه.
القرارُ يستند في حيثياته إلى:(( اكتظاظ الريف الشمالي المحرر لمدينة حلب بالنازحين وخوفاً من عمليات التهجير القسريّة الممنهجة والتي تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية لصالح التقسيم وبناء الدولة الكردية المزعومة بالمسرحيات الهزلية التي تجري على يد داعش وpkk)) كما جاء في نص القرار الذي تم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعي؛ وإذ يبرّر صائِغو هذا القرار المنع لاحقاً بخوفهم من تغلغل الخلايا النائمة لداعش ولحفظ أرواح النازحين وسلامتهم في هذه المنطقة، وبالطبع يجترحُ راسمُو هذه السياسة أخطاءً فادحةً فهم أيضاً يساهمون في تعزيز نظرية “الحواضن الشعبيّة” لداعش والتي لطالما دأب النظام وأشباهه ((حزب الاتحاد الديمقراطي)) في استخدامه أثناء تبريرهم للمجازر التي تُرتكب بحق الأبرياء في مدينتي الرقة ودير الزور خاصةً أو لوسم كل خصوم النظام بسمة الإرهاب وتعميمها عليهم كما عمل النظام مُؤخّراً عندما أصرّ إعلامه على اتهام فصيل “أحرار الشام” بالضلوع وراء تفجيرات طرطوس وجبلة على الرغم من إعلان تنظيم داعش عبر منصات إعلامية قريبة منه مسؤوليته عن هذه التفجيرات، وتتلاقى هذه السياسة بما فعله حزب الاتحاد الديمقراطي عبر جناحه العسكري وحدات الحماية الشعبية المرموز لها اختصاراً (YPG) بعمليات تهجير مُمَنْهجة للسكان في ريفيّ تل أبيض والحسكة في سياق الاتهامات للسكان بإنّهم خلايا نائمة لداعش أو “حواضن شعبيّة” لا خلاص من شرورها إلاّ بطردها من بيوتها أو دفعها للارتماء في أحضان «داعش» لكي تُثبّت بحقهم الاتهامات التي تُكال بحقهم ليلاً نهاراً في سياق البروباغندا الإعلاميّة لكل الجهات التي يُفترض أنّها تسعى لحرب التنظيم وتخليص الناس من جوره وظلمه.
بالطبع يتنكّرُ هذا القرار لتضحيات وبطولات أبناء المنطقة الشرقية الذين يقاتلون على جبهات متعدّدة في ريف حلب وخاصة ً بمناطق التماس مع “داعش” التي تريد هيئة إعزاز الشرعيّة حماية الأهالي من خطر الوافدين إليها من المناطق الشرقية التي أسبغ عليها القرار صفة “الخلايا النائمة” لداعش، وبتجاهل حقيقة أنّ ما سمّاها القرار بالمناطق “المُحرّرة” تعجُّ بالكثير من خلايا داعش النائمة التي قامت بالكثير من الأحيان بتفجيرات عدّة راح ضحيتها الكثير من الأبرياء، وبالطبع تتحمّل الفصائل المقاتلة التي تنتمي للمنطقة الشرقيّة مسؤولية الرد على هذا القرار لكنّها حتى اللحظة لم تصدرْ أي بيان يردُّ على هذا القرار والمغالطات التي وردت فيه والتي لا تنتمي إلاّ لذات الفكر التعميمي والذي يحمّل الأبرياء مسؤوليات الجرائم التي ترتكبها قوى الأمر الواقع في أغلب المناطق السوريّة.
إِبّان التحضير الدعائي لمعركة الرقة المُنتظَرة والتي لم يحصلْ فيها على الصعيد العميلياتي أي تطوّر مهم سوى بعض الاشتباكات في الريف الشمالي للرقة، ألقت طائرات التحالف الدولي منشورات تحضُّ أهالي الرقة على الخروج منها وجاء في هذه المنشورات هذه العبارة: (( حان الوقت الذي طالما انتظرتموه، آن الأوان لمغادرة الرقة ))، بالطبع لم توضّح قيادة التحالف الدولي لعمليات الإرهاب الوسائل والطرائق الآمنة لإخراج المدنييّن التي تدّعي هي الآخرى الحفاظ على سلامتهم، ولم يكن هناك أيّة تحضيرات لوجستية أو إنسانية تؤّمن لهذا التجمّع البشري الضخم أدنى وأبسط مقومات الحياة الإنسانية ( تأمين مخيمات مجهزة لاستيعاب تدفق بشري كبير وتأمين الاحتياجات الإغاثية والطبية)، ناهيك عن غموض الوجهة التي سيسلكها التاركون لبيوتهم في استمرار إغلاق الحكومة التركية (( التي تنتهج سياسة الباب المفتوح لاستقبال اللاجئين )) أبوابها أمام كلّ النازحين السورييّن في إطار تنفيذ الاتفاق التركي ــــ الأوروبي الذي أغلق الباب بوجه السورييّن الهاربين من أتون الموت المستمر، وأيضاً لايستطيع الكثير من أهالي المدينتين قصد مناطق سيطرة ما يُعرف بــ “قوات سوريا الديمقراطية” التي تشكل وحدات الحماية الشعبية المُكون الأبرز والأكثر فعالية فيها، حيث يُطلب في الكثير من الأحيان كفيل لدخول هؤلاء الأهالي أو يخشى البعض على حياته وأهله نتيجة القرارات التعسفيّة التي تطال القادمين من مناطق سيطرة داعش تحت ذا الحجج التي ساقها قرار الهيئة الشرعية لإعزاز( خلايا نائمة لداعش).
يبقى خيار أخير وهو المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد وهو خيار لايقلُّ مخاطرة وصعوبة عن الخيارين السابقين إنْ من النواحي الأمنية واحتمالات الاعتقال والتصفية تحت ذرائع متعددة لاتعجز أفرع أمن الأسد عن اختراعها، أو لصعوبة الوضع المعاشي والغلاء الفاحش الذي لا يستطيع هؤلاء السكان الذين فقدوا أقواتهم ومصادر رزقهم تحمّل أعباءها الشاقة. هنا يجدر الإشارة إلى أنّ مدنيّي الفلوجة عانوا ذات المعاناة التي تحيق بأهل الرقة ودير الزور، فهم وقعوا ضحية ًبين سندان ميليشيا الحشد الشعبي ذات الأجندة الطائفيّة الانتقامية وسندان «داعش» الذي يستفيد من وجود المدنيين للاختباء بينهم واتقاء القصف الجوي، وهناك ــــ أي ــــ في الفلوجة أيضاً تخبّطت الحكومة العراقية التي كانت تدعو المدنيين للخروج منها ضمن ممرات آمنة سُتخصّصَ لهذا الغرض لتناقضها تصريحاتٌ أخرى تدعوهم للبقاء نتيجة عدم تأمين مناطق تأويهم وتؤّمن لهم احتياجاتهم عند تركهم لبيوتهم !!، وهذا للأسف ما سيحدث لاحقاً مع أهالي الرقة ودير الزور مع اختلاف الأطراف الفاعلة في الأرض السوريّة.
ليس مِنّة ًولا فضلاً التذكير بإنّ الرقة وأهلها استقبلوا أهلهم من كل المحافظات السوريّة أثناء سيطرة النظام عليها ولاحقاً حين خروجه منها حتى أطلق عليها البعض اسم “فندق الثورة”ومن المفيد ذكره أنّ شبابها حاولوا بكل استطاعتهم وقدراتهم المحدودة ألاّ يبقى نازحُ سوري يقيم في مخيم وبيوت الرقة مفتوحة، لكنّ الأيام لا تنصف البشر عادةً فهاهو العالم بشرقه وغربه يقول لأهالي الفرات: موتوا بدياركم.. موتوا بجوار فراتكم فلا ناصر لكم أو مُعين !!
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.