الرقة تذبح بصمت
لم تكنْ الثورة السوريّة فقط كاشفة ً للانحدار الإخلاقي للعالم ومُوضِّحة ً لزيف القيم الجمعيّة للإنسانية (حقوق الإنسان- حق الشعوب بتقرير المصير- الديمقراطية)، بل إنّها أسقطت أيضاً شعارات الحياديّة والمهنيّة والموضوعيّة التي تمترس ورائها كبريات وسائل الإعلام العالميّة، فلم يعد مدهشاً أو مفاجئاً أن تحرّف وكالات أنباء عالمية مثل (رويترز- فرانس برس – BBC) الأخبار المتعلّقة بالحدث السوريّ، بل إنّ العاملين في مكاتبها الإقليمية باتوا يجيّرون الخبر وفق رؤاهم وأهوائهم السياسية المنحازة في أغلبها لنظام الأسد، بل إنّ غرف الأخبار في هذه الوكالات باتت تلّمع صورة الأسد ونظامه في الكثير من الأحيان .
في غَمرة الحديث عن التحضيرات والتجهيزات لـ “معركة الرّقة” اختلفت التحليلات وتعدّدت الآراء بشأن موعدها وعن الجديّة الأمريكية بهذا الصدد، هنا أدلت وكالة “فرنس برس” العريقة بدلوها للحديث عن هذه المعركة، فجاء تقريرها الذي صدر يوم الأربعاء 25/5/2016 تحت عنوان ((الرقة… من الازدهار العباسي الى “التحرير” الثالث))، بالطبع يندرج هذا التقرير في إطار المُخاتلة الإعلاميّة التي تنتهجها هذه الوسائل الإعلامية في إطار تقديم الخبر السوريّ للمتابعين حول الإعلام، بقراءة بسيطة لمتن هذا التقرير، يكتشف أبسط المتابعين لما جرى في الرقة الأخطاء الفادحة التي وقع بها مُعدّو هذا التقرير الذين لم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث والتقصيّ عن أبسط المعلومات أثناء إعداد هذا المقال الآنف ذكره، فمثلاً يذكرُ التقرير هذه الفقرة ” وفي البداية كان مقاتلو الجيش السوري الحر يفتقرون كثيرا الى السلاح فرحبوا بالجهاديين المزودين بأسلحة متطورة وتعاونوا معهم، قبل ان يقرروا وقف ذلك بسبب تطرفهم ولجوئهم الى الاعتقالات الاعتباطية”، بالطبع هذا الادعّاء يمكن دحضه بكل سهولة ولا يحتاج لكثير من الجهد، شباب الرقة تظاهروا مراراً ضد ممارسات جبهة النصرة وأحرار الشام باكراً وبالإمكان العودة لليوتيوب ومشاهدة هذه المظاهرات ومنها على سبيل المثال الهتاف الشهير:
(( يا جبهة حاج تدوري روحي عالقصر الجمهوري)) وغيره الكثير، وبالنسبة للمواجهة مع تنظيم “داعش” الذي خرج في وقت لاحق، فأول المعارك معه كانت بالرقة والكل يتذكّر المواجهة التي جرت مع “لواء أحفاد الرسول” والذي انتهى بتفجير داعش لمحطة القطار في المدينة ولاحقاً حدثت المواجهة الشاملة مع بقية الكتائب والتي انتصر “داعش” فيها وطرد بقية الكتائب وفرض سيطرته على المدينة، كلُّ هذا حصل والعالم المتأهب- لحرب الإرهاب اليوم- كان مُتفرجاً ومسرور لما يحصل باعتباره ما يحصل خارج عن نطاق اهتماماته وأمنه القومي.
مثال آخر عن عدم مهنية العاملين في فرانس برس وغيرها، أنّ معدي هذا التقرير وغيره أخطأوا حتى في تقديرات عدد سكان الرقة والتي يمكن الحصول بسهولة ويسر من “ويكبيديا”
فالتقرير يذكر أنّ عدد سكان الرقة 220 ألف نسمة أضيف إليهم 80 ألف، بينما إحصاء عام 2010 يشير إلى أنّ عدد سكان الرقة هو 350 ألف ومع توقعات بأن يصل إجمالي عدد سكان المحافظة إلى 1059000 نسمة في عام 2012 بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء بسورية، هذا يبيّن كم الأخطاء والمغالطات الواردة في المواد المنشورة عن سوريّة عامة والرقة خاصة ً في الإعلام للعالمي.
بالعودة إلى موضوع “التحرير” الذي ينوي الأمريكان وحلفائهم الرئيسين البدء فيه عن طريق قوات سورية الديمقراطية والتي ماهي تجميع لفصائل مشرذمة الغلبة فيها لـ “وحدات حماية الشعب” الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني في سوريّة والمصنف بإنّه جماعة إرهابية حسب تصنيفات الولايات المتحدة نفسها!!، طبعاً تجربة “تحرير” تل أبيض من داعش والتطمينات بإنّ فصائل معارضة محليّة هي من تتولى حكم المنطقة ذات الأغلبية العربية أعطت انطباعاً سلبياً ومفاعيل غير مشجعة لأي عمليّة عسكرية تكون فيها هذه الوحدات طرفاً فيها، فهذه الوحدات متهمة بارتكاب انتهاكات بحسب تقرير منظمة العفو الدوليّة (امنيستي) الصادر في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2015 اتهم صراحة ً وبلا مواربة وحدات حماية الشعب بارتكاب عمليات تهجير وتهديم للمنازل فالتقرير يذكر هذا الشيء تحديداً بهذه الفقرة : (( ويوثق التقرير الحالي قيام أجهزة الإدارة الذاتية لا سيما شرطتها العسكرية بتعمد هدم منازل المدنيين وتهجيرهم، وطال ذلك سكان قرى بكاملها في بعض الأحيان ومع إن الإدارة الذاتية تصر على أن سياساتها المتبعة على صعيد تهجير المدنيين ليست تعسفية الطابع وإنما جاءت لاعتبارات عسكرية أو أمنية من أجل حماية السكان، يوثق هذا التقرير حالات تثبت عدم صحة هذا التبرير، وترى منظمة العفو الدولية أن عمليات الهدم المتعمد وتهجير السكان ومصادرة ممتلكاتهم الواردة في التقرير الحالي تشكل جرائم حرب)).
وليس هذا فحسب صحيفة ” التلغراف البريطانية ” نشرت مقالاً في الثامن عاشر من الشهر الجاري بعنوان ((Syrian Kurds accused of ethnic cleansing and killing opponents)) الكرد السوريون متهمون بالتطهير العرقي وقتل المعارضين، تقدّم المقالة شهادة للسفير الأمريكي السابق في دمشق روبرت فورد أمام لجنة الاستماع في مجلس الشيوخ الأمريكي بأنّ هذه الجماعة- أي وحدات حماية الشعب (YPG)- تدفع الناس باتجاه أحضان “داعش” بحسب وصف فورد وأصاف أنّ اللاجئين الفارين لا يذهبون إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة القوات الكردية أثناء هربهم من مناطق سيطرة “داعش”، كلُّ ما سبق إضافة ً إلى تزامن معركة أخرى تجري في العراق لانتزاع مدينة الفلوجة من تنظيم “داعش” وقيام ملييشيا الحشد الشعبي التي قال أحد قادة الفصائل فيها “أوس الخفاجي” قائد لواء أبو الفضل العباس في كلمة له أمام منتسبي لواءه : (( لا يوجد مدنيين في الفلوجة يجب بتر هذا الورم من العراق وهؤلاء هم كفار ويجب إبادتهم)) وإطلاق الميليشيات الشيعيّة المتطرّفة صواريخ تحمل شعارات طائفية تحمل اسم “النمر” في إشارة للشيخ الشيعي “نمر النمر” الذي قامت المملكة العربية السعودية في قتله في وقت سابق وتحميل مدنيي الفلوجة هذا العمل.
كلُّ هذه الحوادث تؤّكد أنّ حلفاء الولايات المتحدة لحرب داعش في سوريّة والعراق، ما هم إلاّ تجمعات طائفية حاقدة (( ميليشيا الحشد الشعبي)) أو ميليشيات شعبويّة قومية (( وحدات حماية الشعب)) ذات النزعة الانفصالية، لا تلعب دور “المُحرِّر” للمناطق التي تسيطر عليها داعش، بل تصبح هذه المناطق وكأنّها انتقلت من الأكثر سوءاً إلى السيء ولا تبشّر أفعال هؤلاء الحلفاء بالحرية والانعتاق التي تعد بها الولايات المتحدة الناس الواقعين تحت احتلال “داعش”؛ بل إنّها في الكثير من الأحيان تعطي فرصةّ لداعش لتثبيت خطابها بإنّ “المُحرٍّرين” سيبيدون أهل هذه المناطق وتسهم هذه الأفعال في تجنيد منتسبين جُدد لها من أهل هذه المناطق تحت وطأة التهديدات بالويل والثبور لمدنيي ّالرقة وغيرها واتهامهم بأّنّهم “حواضن للإرهاب” يجب معاقبتهم والقصاص منها، وهنا تصبح ادعّاءات التحرير والكلام المُنمّق حوله مجرد كلام لذر الرماد في العيون ليس إلاّ .
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.