«الدنيا أربعةُ منازل؛ دمشق، والرَّقة، والرَّي، وسمرقند». – الخليفة العبَّاسي هارون الرشيد.
على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وتحديدًا في شمال شرق سوريا، تقع محافظة الرَّقة، والتي تبعد عن حلب حوالي 160 كيلومتر شرقًا، أسسها واتخذت من قبل مُسمى « كالينيكوس»، وذلك نسبة إلى مؤسسها «سلوقس الأول»، أحد قادة جيش «الإسكندر المقدوني». ويقول البعض بأن هذه التسمية تعود إلى الفيلسوف اليوناني« كالينيكوس» الذي يعتقد أنَّه تُوفي في الرقة. وأنشئت المدينة عام 242 قبل الميلاد، واتخذها البيزنطيون قديمًا مركزًا عسكريًا واقتصاديًا، وذلك قبل أن يعتبرها الخليفة العباسي «هارون الرشيد» بمثابة عاصمة له أيضًا.
عاصرت مدينة الرَّقة تاريخًا كبيرًا، إلى أن وقعت في الأخير تحت قبضة تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش». وفي هذا التقرير يقدم ساسة بوست تطورًا زمنيًا للأحداث في مدينة الرَّقة منذ اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011 وحتى الآن، مع تسليط الضوء على حركة «الرَّقة تُذبح بصمت»، والتي – منذ أيام – مَرَّ على تأسيسها عامين إلى الآن، عملت خلالهم على فضح انتهاكات ومعارضة تنظيم «الدولة الإسلامية» في المدينة.
بدايةً.. كيف تحرَّرت الرَّقة من نظام الأسد؟
لحقت الرَّقة بالمدن المنتفضة ضد نظام «بشَّار الأسد» في بدايات أيام الانتفاضة السورية في مارس(آذار) 2011؛ حيث خرجت أول مظاهرة فيها ضد ممارسات النظام القمعي يوم الخامس والعشرين من الشهر نفسه، أي بعد عشرة أيام فقط من بداية الاحتجاجات في سوريا، والتي بدأت في الخامس عشر من مارس(آذار).
استمرَّت الاحتجاجات اليومية السلمية والمسيرات المعارضة والمناهضة لنظام الأسد على مدار عامٍ كاملٍ، تخلله عددٌ كبير من الاعتقالات للمتظاهرين السلميين، إلى أن أتت الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الانتفاضة في الخامس عشر من مارس(آذار) من عام 2012، إذ فتحت قوات الأمن النظامية النار على المتظاهرين بالرَّقة في عدد من المسيرات التي قُدِّر عددها بعشر مسيرات في هذا اليوم، ليسقط أول شهداء الانتفاضة السورية من مدينة درعا في هذا اليوم، ومنهم «علي البابنسي»؛ الذي تجمَّع الأهالي والمتظاهرون عند منزله؛ ليشيعوا جنازته، وخوفًا من سرقة جثمانه، وشارك في التشييع حوالي 300 ألف مشيِّع في مظاهرة استمرت لما يقرب من عشرين ساعة متواصلة. واستمرت هذه الاحتجاجات لمدة أربعة أيام، ليدخل على إثرها الجيش السوري النظامي؛ ليعتقل ما يقارب الألف، وليرفع عدد الشهداء إلى ثلاثة وستين شهيدًا، فقط في أربعة أيام.
ولم تمض أيَّام حتى بدأت الرَّقة في العسكرة، بعد سقوط عدد كبير من الشهداء مع اليأس الذي أصاب أهلها، لتتشكل أول كتيبة للمعارضة السورية في الرقة تحت اسم «كتيبة أحفاد الرشيد» في التاسع عشر من مارس(آذار) من عام 2012، لتستمر المعارك المسلحة في المدينة، وحتى الثاني من الشهر نفسه من العام التالي، حيث أعلنت المعارضة خوض غارة الجبار من أجل تحرير مدينة الرَّقة من قوات النظام، وذلك عن طريق استهداف معاقل النظام والمقار الأمنية والعسكرية له. وبعد خمسة أيام فقط في السابع من مارس(آذار) 2013، سقط آخر معاقل النظام السوري، وأعلنت الفصائل المسلحة بالمدينة حينها تحرير المدينة بأكملها من نظام بشَّار الأسد، لتُقام الأفراح في المدينة بهذه المناسبة.
كيف وصل «تنظيم الدولة» إلى المدينة؟
لم تدم تلك الأفراح طويلًا، فقد حدثت في الأشهر التالية عدة جرائم، من اختطاف، وقتل لعدد من الناشطين، في الرقة، ولم يكن معلوم من يقوم بمثل هذه الأفعال حينها، وذلك في ظل وجود عدد كبير من الفصائل والميليشيات المسلحة في المدينة، ولكن في يونيو(حزيران) 2013 حدثت لأول مرة مواجهة بين تنظيم الدولة ولواء «أحفاد الرسول»؛ إذ قام التنظيم بتفجير سيارة مفخخة في محطة القطارات بالرقة، حيث كان يستقر اللواء، مما أدى إلى مقتل ما يقارب الثلاثين. هذا الحدث كان نقطة فارقة في الرَّقة؛ حيث قررت الفصائل المسلحة بالمدينة، إمَّا الوحدة أو الرحيل، وذلك خوفًا من سيطرة التنظيم على المدينة، أو خوفًا منه. حتى استقَّر في المدينة ثلاثة فصائل فقط؛ تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، جبهة النُصرة، جماعة «أحرار الشام».
كان أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، قد أعلن قبلها تأسيس التنظيم وأعلن مبايعة «جبهة النصرة» له، ولكن في بداية عام 2014 فكَّر البغدادي في السيطرة على المدينة لأول مرة، ومع إحساس الفصائل المقاتلة الأخرى هناك بالخطر.. قررت محاربة التنظيم في يناير(كانون الثاني) 2014 وبدأت معارك شرسة، مما أدى بجماعة«أحرار الشام» لعقد هدنة مع التنظيم تقضي بتسليم السلاح للتنظيم مقابل الخروج الآمن للجماعة من المدينة. انسحبت الجماعة بالفعل من المدينة، ولكن غدر بها التنظيم، وقتل 120 جندي منهم. وسيطر التنظيم بشكل كامل على المدينة، وأعلن قيام ولاية الرَّقة كأول ولاية للتنظيم، وعاصمة له.
ما هي حركة «الرَّقة تُذبح بصمت»؟
منذ سيطرة تنظيم الدولة على الرَّقة بدأ التنظيم في تطبيق مشروعه على المدينة، فأوقف التعليم، وأصدر قرارات بالتضييق على المرأة، والطلبة والنشطاء السياسيين الذين رصدوا انتهاكات للتنظيم وللنظام بحق المدينة؛ إذ تم اعتقال الآلاف من سكان المدينة في هذه الفترة، فبلغ عددهم ما يزيد عن ثلاثة آلاف معتقل تقريبًا. في هذا الوقت ظهرت حركة «الرَّقة تُذبح بصمت»، وذلك بعد نشر هاشتاغ «#الرقة_تذبح_بصمت» على موقعيّ التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر.
ويُعرِّف أعضاء الحركة أنفسهم بأنهم مجموعة من الناشطين الذين حملوا على عاتقهم مهمَّة فضح النظام، وتنظيم الدولة الإسلاميَّة، وجرائمهما، وانتهاكاتهما المرتكبة بحق أهالي الرقة، وذلك عن طريق توثيقها وتسليط الضوء عليها. كمّا أعلنوا أنها حملة إعلامية مدنية مستقلة، ولا تتبع أية جهة سياسية أو عسكرية.
وبحسب الموقع الرسمي للحملة التي تتكون من 17 عضوًا – تتراوح أعمارهم بين 18 و27 عامًا – بدأت العمل في إبريل (نيسان) عام 2014، بعد سيطرة التنظيم على الرَّقة بأكملها، وذلك عقب ارتكابه لانتهاكات لحقوق الإنسان، وإنتهاجه سياسة تكميم الأفواه، وخنق الحريات في المدينة عبر ملاحقة نشطاء الداخل واعتقالهم، إضافةً إلى الاعتقالات العشوائية، وارتكاب الكثير من جرائم القتل بحق المدنيين والناشطين على حدٍ سواء.
«الرَّقة تُذبح بصمت: هي حركة المقاومة المدنية الوحيدة، التي تعدت نشاطاتها الإعلامي عبر شبكة الإنترنت إلى تنظيم حملات على أرض الواقع، للفت الانتباه لجرائم النظام السوري والدولة الإسلامية، والتعبير عن رفضهما عبر حراك مدني». – عبد العزيز الحمزة، أحد مؤسسي الحملة في تصريح صحفي.
ولم تقتصر الحملة على العمل لرصد انتهاكات النظام السوري وتنظيم الدولة فقط، وإنما عملت أيضًا على رصد أي نوع من الانتهاكات في واقع المدينة؛ إذ رصدت الحملة انتهاكات للنظام الروسي، المؤيد الأساسي للنظام السوري، وأيضًا كشفت عن انتهاكات ارتكبتها وحدات حماية الشعب، الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني بنسخته السورية، والتي كانت بحق المدنيين العرب والتركمان والكرد، وتهجيرهم من قراهم، وهو ما أكدته تقارير العديد من المنظمات الدولية، مثل منظمة العفو الدولية.
وغير التوثيق، ونقل الصورة الحقيقية لما يحدث داخل الرَّقة، فإن الحملة أيضًا تعمل على معارضة النظام السوري، ومعارضة تنظيم «داعش»؛ إذ أكَّد «عبد العزيز الحمزة»، أحد مؤسسي الحملة، في تصريح صحفي، بأنَّ هناك عمل على الكتابة على الجدران ضد نظام الأسد وداعش، كما أن الحملة تقوم بطباعة المنشورات، واللافتات المناهضة لنظاميّ بشَّار الأسد وداعش، وتوزيعها في الشوارع، بالإضافة لرفع لافتات باللغة الانجليزية موجهة إلى الجمهور العالمي خلال التظاهرات، فضلًا عن إطلاق مجلة تحت اسم «دابئ»؛ للسخرية من «الدولة الإسلامية» ورسائلها التي تنشرها في مجلة بعنوان «دابق».
وأصدرت الحملة بيانًا على موقعها الرسمي بمناسبة مرور عاملين على تأسيسها، وأكدت في هذا البيان أن«القضاء على الإرهاب لن يتم، ولن يصبح عملًا ناجزًا، إلا بالقضاء على رأسه القابع في دمشق وهو «الأسد»، وملاحقة أركان نظامه، وأفراد جيشه المتورطين في قتل الشعب السوري، وتهجيره، حينها سيستطيع العالم والسوريّون القضاء على «داعش» وأشباهها، وإنقاذ سوريّة، والعالم ككل، من أخطار الإرهاب وشروره».
ما هي المخاطر التي واجهتها الحملة؟ وما هو رد فعل تنظيم «الدولة الإسلامية» عليها؟
كان بإمكان أعضاء الحملة الصمت خوفًا على حيواتهم من بطش تنظيم «داعش»، خاصةً في ظل يقينهم بأنهم لا يملكون الأدوات التي تمكّنهم من تغيير الواقع المفروض عليهم في المدينة، ولكنَّهم يرون أن العمل بالإمكانيات المتاحة والخبرات المحدودة المتوفرة خيرٌ من الصمت؛ لأن الصمت «جريمة أخرى تُضاف إلى الجرائم التي باتت تظهر بحق المدينة وأهلها تباعًا»، على حد قولهم، ولذلك وجدوا أن المقاومة المدنية هي الحل الأنسب؛ من أجل تسليط الضوء على الرَّقة.
بالطبع لن يرحب أي شخص أن تُفضح جرائمه أمام أعين العالم كله ووسائل الإعلام، فما بالك لو كان المفعول به هو تنظيم «داعش»! جاء ردّ فعل التنظيم سريعًا؛ فبعد أسبوع واحد فقط من بداية عمل الحملة أطلق التنظيم أوامره في كل جوامع المدينة في خُطب صلاة الجمعة؛ تُحذِّر كل من يعمل ضد التنظيم، متهمًا إياهم بالكُفَّار والمشركين والمرتدِّين، فضلًا عن اتهامهم بالتبعية للغرب «الكافر»، وهددوا بأنَّ مصيرهم القتل. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، قال عبد العزيز الحمزة، أحد مؤسسي الحملة في تصريح صحفي «إنه أُلقي القبض على ستّين شخصًا؛ لأنهم أُعجبوا بصفحة الحملة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وُجهت لهم تهمة الانضمام للحركة. وبعد شهر واحد قُبض على أحد أعضاء الحملة وهو (المعتز بالله إبراهيم)، الذي أعدمه التنظيم في ساحةٍ عامة، وذلك بعد العثور على مواد إعلامية على حاسوبه الخاص».
ليس هذا فقط، بل امتد البطش ليلحق بعائلات أعضاء الحملة أيضًا وزملائهم، وليس ضد أعضائها وحدهم؛ فقد ألقى التنظيم القبض على شقيق ووالد عضو الحملة حمود الموسى»، الذي قُتل رميًا بالرصاص؛ بتهمة التعاون مع الحملة. كما أُلقي القبض على خمسة ناشطين آخرين، ليسوا من أعضاء الحملة، وتم التفاوض من قِبل التنظيم على إطلاق سراحهم مقابل تسليم ثلاثة مراسلين من أعضاء الحملة، وهو ما لم يحدث، مما دفع التنظيم لإعدام هؤلاء الخمسة.
عمل التنظيم على ملاحقة أعضاء الحملة في الخارج أيضًا؛ حيث استطاع- عن طريق أحد عملائه- قتل «إبراهيم عبد القادر»،أحد أعضاء الحملة في مدينة أوروفا التركية، حيث كان برفقة صديقه «فارس حمادي»، الذي تم قتله أيضًا. وتابع التنظيم عمليات استهداف أعضاء الحملة ف جاء الدور على أحمدالموسى، أحد أعضاء الحملة في إدلب. ولم ينج المخرج والصحفي «ناجي الجرف»، الذي كان يعمل كمخرج ومدرب لأعضاء الحملة، من عمليات التنظيم؛ إذ قام التنظيم بملاحقته وقتله بكاتم للصوت في مدينة «غازي عنتاب» التركية ليرتفع عدد الشهداء من أعضاء الحملة وعائلاتهم وأصدقائهم إلى 11 شهيدًا.
الإنجازات والجوائز
كل عمليات استهداف التنظيم لأعضاء الحملة ما كانت إلَّا لتزيد من عزيمة ومثابرة من تبقَّى منهم؛ من أجل مزيد من العمل؛ لفضح انتهاكات التنظيم، وللثأر من الذين رحلوا. كما أن كل هذه العمليات المُمنهّجة هي أكبر دليل على فاعلية الحملة. ومع مرور الأيام والشهور، اكتسبت الحملة خبرة استطاعت من خلالها الانفراد ببث عدد من الأخبار الحصرية؛ وذلك نتيجة اختراق داعش من الداخل وفضح أسراره، مثل خبر إعدام الطيار الأردني «معاذ الكساسبة»، وذلك قبل 22 يومًا من نشر التنظيم فيديو ليوضح طريقة قتله. وأيضًا استطاعت تسريب أخبار، مثل خبر إعدام الرهينة البريطاني آلان هينينغ قبل 14 يومًا من إعلان التنظيم الخبر، مما أضفى مصداقية للحملة لدى الصحافة الدولية. وبرغم كون كل هذه التسريبات إنجازًا للحملة، إلَّا أنها ترى أن نقل الصورة الحقيقية، منذ تأسيس الحملة وحتى الآن، هو الإنجاز الأكبر لها.
ترشحت الحملة لعدد من الجوائز الدولية، وحصلت على جائزة حرية الصحافة من منظمة حماية الصحفيين، كما أنها ترشحت منذ أيام قليلة فقط لنيل لجائزة البوبز لصحافة المواطن لعام 2016، والتي تمنحها مؤسسة «دويتشه فيله» الألمانية.
المصدر : ساسة بوست – sasapost.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.