خاص – الرقة تذبح بصمت
أبو لقمان (استهلال وتعريف):
لن نجد حرجاً كبيراً فيما لو بالغنا في تقدير موهبة هذا الرجل الإستثنائي، والذي لعب دوره بمهارة تحسب له في تجميع قوى داعش المبعثرة والصعبة التكوين في محافظة كالرقة، واستطاع أن يخطو الخطوات الكبرى في تشكيل بنيان داعش المؤسساتي. إنه لم يسهم بالسهم الأكبر في صنع داعش في طبعتها السورية فقط، بل لعل الأصح قولاً بأنه كان من الشركاء الأساسيين في الدولة العميقة على مستوى العالم أجمع في إعادة تأطير وتشكيل الشرق الأوسط الجديد التي خططت وسعت ـ وما تزال ـ إلى إعادة تشكيله من جديد، وأحد أدوات قوى كبرى نافذة، ومصيرية القرار والقوة والإرادة، إن أبا لقمان هو أحد اللاعبين الدوليين في إنفاذ تلك الإرادات الدولية التي سيبقى تأثيرها لعشرات السنين.
صحيح أن طريق الحكمة العميقة مرصوفة بالآلام، غير أن الآلام بالنسبة لرجل مثل أبي لقمان هي ضريبة يجب أن يسددها السكان المحليون، أهل الرقة البسطاء الذين تغلب عليهم طبيعتهم الريفية البريئة، نصف القروية ونصف المدينية، وسجاياهم الخام التي لم تتعود مرجل “التطهير من الآثام”، والذي سيغمسهم أبو لقمان في أتونه، فقوة الشر هي طبيعة مقلقة وملحة كثيراً على الإنسان، لكن الإنسان بطبعه وبما جُبِل عليه لا يستطيع أن يقلق إلا من تفكره الدائم في الأخطار الخارجية غيرالمتوقعة، الأمراض والكوارث الطبيعية والحروب والشرور التي تصنعها السلطات والأعداء الكثيرون، فالإنسان لا يفكر عادة في الأخطار القابعة في نفسه، والناجمة عنه وعن شره الداخلي المحتمل. إن الشر الذاتي فيه دائماً شيء غير وارد وغير ممكن ولا يستحق الإكتراث أو التأمل، وهو يملي على سلوكه وتفكيره دوماً بأن الأخطار الخارجية شرور أكيدة .. أما خطره الداخلي الكامن فيه، فهو شرغير مؤكد.
أبو لقمان اسمه علي موسى الشواخ، مواليد 1980من قرية السحل التي تبعد 15 كيلومتر غربي الرقة، وهو خريج جامعة حلب من كلية الحقوق، ومن عشيرة العجيل، وهي عشيرة صغيرة نسبياً متجمعة في القرى المحصورة بين الرقة والطبقة، ويدَّعي بأنه من قبيلة الجبور. وأبو لقمان كانت تربطه صلة وثيقة بالمدعو أبي القعقاع، (محمود قول أغاسي) الذي لعب دوراً أمنياً واستخباراتياً في فترة حرب الخليج، وقام بتحريض الشباب الحلبي في حي الصاخور عبر خطبه الحماسية الشديدة التأثير على الجهاد في العراق والالتحاق بتنظيم القاعدة أول تشكله في العراق بعد الغزو الأمريكي. هذه الصلة ماتزال حتى اليوم يكتنفها شيءٌ من الغموض، مع أنها باتت مؤكدة، وبعد أن انكشف دور أبي القعقاع الإستخباراتي، والذي بات مؤكداً أنه كان أكبر اللاعبين في نظام الأسد، وبعد أن تكشفت صِلاتُه بآصف شوكت الذي جنده رسمياً كعنصر يعمل لصالح المخابرات العسكرية السورية منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية، انسحب أبو القعقاع من أمام الأضواء متوارياً بعد أن تسبب في مجزرة مهولة لشباب ويافعين حرضهم على الإلتحاق بالمجاهدين العراقين، وقُتِل معظمُهم هنالك في صحاري الأنبار.
اقتصر دور أبي القعقاع اللاحق على إلقاء خطبة الجمعة في أحد مساجد حلب بعد أن ثبت توريطه لعشرات الشبان الحلبيين في حرب الخليج وإرسالهم الى العراق، وزجِّهم في محرقة مميتة في المواجهات مع القوات الأمريكية الغازية والميليشيات الشيعية التي نشأت في تلك المرحلة، ومن قُدِّرَ له النجاة والعودة سالماً إلى سوريا كانت أجهزة نظام الأسد تنتظره وتقف له بالمرصاد لاعتقاله.
انتهى دور أبي القعقاع وانطفأ ذكره باغتياله إثر خروجه من المسجد الذي كان يصلي فيه صلاة الجمعة، ولقد تداولت الآراء كثيراً في الجهة التي قامت بتصفيته، فمنهم من اتهم النظام مباشرة، وبعض الآراء رأت أن قتله كان حادثاً انتقامياً من أحد الشباب الناجين من محرقة العراق التي ورط الكثيرين في أتونها.. ماهي العلاقة التي ربطت أبا لقمان بأبي القعقاع؟ هذا ما لا يُعرف بيقين وأدلة موثقة، بيد أن المؤكد أن أبا لقمان كان دائم السفر إلى حلب للِّقاء به والحرص على حضور خطبته ودروسه لفترة طويلة تجاوزت سنوات.
في تلك الفترة كان أبو لقمان معتقلاً في سجن صيدنايا العسكري بسبب ميوله السلفية الجهادية، وكان النظام السوري في أوج تصاعده في صناعة التنظيمات الجهادية وتكييفها وطبعها بطابعه وربطها بأجهزته، حتى أنه أصبح مرجعية دولية بهذه الخبرات التي احتوى عليها واختبرها وجرَّبها وخرج بها بعد حربي الخليج الأولى والثانية، ولو قال قائل بأن نظام الاسد قد امتلك أذرع سرية من تلك الجماعات متغلغلة في كل بلاد العالم تقريباً لصدق ولما كذَّبه أحد، لقد زرعت الإستخبارات السورية خلايا الجهاديين في أفغانستان والسودان مروراً بمعظم البلاد العربية تقريباً، لاسيما تلك التي عانت واحترقت بنيران الخلايا الأصولية كالجزائر(تجربة جماعة الجِيَّة بشكل خاص)، والأردن ولبنان ،وبالأخص داخل التنظيمات الفلسطينية(تجربة جند الشام وفتح الإسلام في المخيمات الفلسطينية في لبنان)، وكذلك في معظم دول مجلس التعاون الخليجي.
كان ملف الخلايا السلفية يتم التنسيق فيه بين جهازين سوريين كبيرين: الإستخبارات العسكرية السورية التي يشرف عليها آصف شوكت مباشرة، وإدارة المخابرات الجوية العامة بقيادة اللواء “أديب نمر سلامة”، ولقد اتخذ اللواء سلامة من سجن صيدنايا العسكري مختبراً ومعملاً للتصنيع واختبار نقاط الضعف البنيوية في الخلايا التي سوف يتمُّ مدُّها بكل أسباب الإستمرار والتقوية والصلابة الكافية، بما يضمن لها تغلغلاً وانتشاراً يكفل تدخلها وضربها في أي مكان تشاء ومتى شاءت وشاء لها نظام الأسد الذي استطاع بهذه المخططات الجهنمية أن يبتزَّ دولَ العالم أجمع، وأن يراهن على بقائه بورقة الأصولية ومحاربتها حتى يومنا هذا.
خرج أبو لقمان من السجن بعد ان تم تجنيده وتأهيله تأهيلا عاليَ المستوى من قبل اللواء أديب سلامة، وبإشرافه المباشر، وبتزكية واقتراح مباشر من قريب أبي لقمان، وأحد أبناء عمومته، المدعو ابراهيم الهنيدي عضو القيادة القطرية في حزب البعث ومحافظ القنيطرة السابق، وبعد ذلك كانت له صحبة مع أبي ماريا القحطاني الذي اصبح في وقت سابق الناطق الرسمي باسم جبهة النصرة، وأبي ذر الذي أصبح والي الحسكة بعد ظهور تنظيم داعش، وتلك الصحبة كانت أيام كانوا أعضاءً فـي جبهة النصرة قبل ظهور داعش، وقبل أن يُسجن أبو لقمان من قبل السلطات العراقية.
بعد ذلك بايع أبو لقمان تنظيم القاعدة حديثاً، وانفصل نهائيا عن جماعة الدولة والهجرة (وهي جماعة سرية شديدة الغموض، تشبه كثيراً الأخويات الماسونية، وتتألف من جامعيين ومثقفين سلفيين نخبويين شديدي السرية وغامضي الأهداف) والذي كان ينشط من خلاله فترة دراسته الجامعية، قبل أن يبايع تنظيم القاعدة بيعة مشروطة، حيث كانت بيعته تحت الشجرة هو والمدعو أبو عادل العراقي وأبو ماريا القحطاني (تأسياً ببيعة الشجرة الشهيرة في السنة النبوية)، علماً بأن أبا لقمان كان قد اشترط شروطاً قبل البيعة (وهو ما يسمونه في مصطلحاتهم بالبيعة المشروطة) حيث بايع أبا ماريا نيابةً، والذي كان يُعدُّ ممثلاً لتنظيم القاعدة في بلاد الشام، وكانت شروط تلك البيعة على أن يتم إصلاح بعض أخطاء التنظيم في (دولة العراق) كما أصبحت تسمى آنذاك، وقد قال له أبو ماريا يومها: إذا كنت تريد الإصلاح بايع ومن ثم قم بالإصلاح الـذي تراه مناسباً وموافقاً للشريعة.
هناك كثير من التأكيدات أن أبا لقمان ـ أميرداعش في محافظة الرقة ثم في المنطقة الشرقية من سوريا ـ قد قاتل مع القاعدة في العراق عام 2006 ، وبعد وصوله إلى ريف دير الزور كان قد أمضى عدة أشهر في مدينة الشحيل لأنه لم يكن معروفاً من قبل قيادات التنظيم آنذاك، وقد تمت تزكيته من قبل “جماعة الدولة والهجرة”، قبل أن يتم تعيينه بعدها والياً على محافظة الرقة .