تعيش المدن السورية الخارجة عن سيطرة النظام في ظروف صعبة للغاية، من جوع إلى حصار إلى قصف وإبادة، ولكل منطقة ميزة تختلف عن غيرها لكن ما يجمعهم هو الموت.ففي كل مرة يشتد الوضع تأزماً في منطقة ما، وإذا كان هنالك من مخرج يلجأ الأهالي إلى النزوح هرباً من الموت الذي يتربص بهم ليل نهار، وهذا حال أحياء مدينة حلب اليوم التي خرجت منها مئات العائلات صوب الريف أو حتى مدينة إدلب بحثا عن مكان أكثر أمنا بعيداً عن جحيم نيران الطيران الروسي وبراميل الأسد، ولكن المشهد في الرقة يختلف قليلا لأن المدينة تقصف وأهلها لا يتركونها.
خلال الشهر الفائت شن الطيران الروسي العديد من الغارات على الرقة خلفت دماراً كبيراً وحصيلة ثقيلة في صفوف المدنيين، حيث تجاوز العدد 30 شهيداً وعشرات المصابين الذين يعتبرون بشكل أو بآخر في عداد الشهداء في ظل الظروف السيئة التي يشهدها القطاع الصحي شبه المعطل في الرقة.
وفي الأثناء شهد الايام الماضية غارة من نوع خاص شنتها طائرات التحالف الدولي بعد تحليق مستمر لأكثر من ثلاثة أيام متواصلة عبر طائرات الاستطلاع التي جابت المدينة بأكملها ومسحتها من شمالها إلى جنوبها حتى بات لسان حال أهل الرقة يقول: (أصبح لنا ألبوم صور لدى التحالف).
وكانت النتيجة أخيرا قرابة 24 غارة جوية لأكثر من ثلاثة ساعات والطائرات تلقي بحممها على الرقة وتحول ليلها الهادئ إلى كابوس مرعب يعيشه المدنيون كل يوم في مدينة تعج بالابنية البسيطة وغير المجهزة بالملاجئ أو أي من وسائل الحماية.
يمضي الليل ويقبل النهار ويبدأ أهل المدينة بتفقد آثار الدمار الذي لا تكاد أعينهم تصدق هول منظره، فالكتل الاسمنتية تهاوت وتراكمت فوق بعضها البعض كما لو أنها من الورق، وبالرغم من ذلك فهم يتابعون يومهم وحياتهم دونما تفكير بحجم الخطر الذي يتربص بهم.
ولدى سؤالنا لأحد سكان المدينة الذي كان يحدثنا عن هول الدمار بصوامع الرقة والأحياء السكنية المحيطة بها عن النزوح، يقول باللهجة العامية : “نزوح !!!! نحن ما عندنا ناكل شلون بدنا ننزح”، ويتابع : “لم يعد أحد قادر على الخروج من الرقة منذ أشهر، فمن كان يريد النزوح خرج منذ فترة ولم يبقى إلى هذه اللحظة. الأمر ليس بهذه السهولة فتكلفة الخروج من المدينة تبلغ حوالي 100.000 ل.س للشخص الواحد، بمعنى أن العائلة المكونة من 5 أشخاص تحتاج إلى نصف مليون، وهذا رقم ليس بالقليل ولن تجد الكثير ممن يملكونه اليوم بالرقة. ناهيك عن أن النزوح يعني إيجار منزل ومصاريف أخرى كثيرة لا أنا ولا كل الذين أعرفهم يملكونها وعليك ايضا ان تأخذ الاذن من داعش.”
حاولنا معرفة آراء أشخاص آخرين فوجدنا “أم علي” وهي امرأة ستينية تعيش مع زوجها وابنتها في منزلهم المتواضع في أحد أحياء المدينة، وعندما سألناها عن سبب عدم نزوحها من الحي الذي تعرض للقصف عدة مرات، قالت: “داعش زرعت مخبرين في كل مكان وبكل حي، وما أن يسمعوا أن أحدهم خرج حتى يقوموا بمصادرة المنزل ونهب محتوياته، وإما أن يقوموا بإسكان أحد عناصرهم فيه أو يحولونه إلى مقر أو مستوع للذخيرة. منزلي هو كل ما نملكه، ربيت فيه أبنائي وعشت فيه كامل حياتي، ولن أخرج منه إلا إلى حطين (تقصد مقبرة حطين بالرقة).”
أما “أ.ع” وهو رجل يبلغ 36 عاماً فيقول وبحرقة: “لا أحد يكترث إن قصفت الرقة، و لا أحد يكترث إن مات أبناؤها، صحيح أن حالة الإهمال لسوريا هي حالة عمومية لكن الرقة تنال القسط الأكبر منه، فتهمة (الدعشنة) جاهزة دوما ومرتبطة بكونك من الرقة فقط. فتواجد بضع مئات من عصابة داعش في الرقة يبيح للنظام ولدول العالم أجمع قتل الالاف من أهلها.”
الموت يلاحق المدنيين في كل مكان وزمان، فمن لم يمت بقصف الطيران المتعدد الجنسيات سيموت على يد عناصر التنظيم المتطرف الذي يتفنن بابتكار وسائل جديدة للقتل أكثر عنفا ووحشية من ذي قبل، ومن نجا من هذا وذاك فهو معرض للموت نتيجة الظروف المعيشية والصحية المتهاوية، أو الموت قهرا وحزنا على المدينة التي لم يعد أبناؤها يميزون شوارعها ولا أحيائها بعدما تغيرت ملامحها ومعالمها جراء القصف اليومي الذي تتعرض له.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.