أنا , مسلم، سنّي، ابن عشيرة، ومن الفرات، صفاتٌ لو حاولتُ قراءتها بحديّة، لربما تم تصنيفي كإرهابي، دون محاكمة تُذكر.
لستُ بكاتب، فُصلت من كلّيتي البتروحريّة -كما يُحب أن يُسمّيها أبناؤها- لأجد نفسي خارجاً من فرع أمنيّ وأكمل نشاطي في هذه الثورة.
أحاول عدم بدء حديثي بنظريات “كنّا عايشين” و “جاري المسيحي ما عرفت إنو مسيحي لحتى أجو الإرهابيين.” لم يعنيني أن أسأل داخل الفرع 215 أو أيّ من القبور العائمة على الأرض المسماة “فروع أمنية” عن دين أو مذهب أي أحدٍ منهم، جئنا إلى هنا لأننا انتهجنا دين الثورة، واعتنقنا طائفة الحريّة، عشيرتي تمتد من تل أبيض إلى البوكمال، ومن الحسكة إلى حمص، وأولاد عمومتي التي ما زلت أتعرّف عليهم للسنة الخامسة على التوالي، وأكثر .
اليوم، “عامين مرت ولا محبوب لاحنّا” هكذا يقول الشاعر الرقّي عندما ظننته يخاطبني صباح اليوم لولا أسعفني تاريخ الأغنية القديم.
أنا سرمد الجيلاني، من الرقة تذبح بصمت، أتكلم عن شباب وكأننا خُلقنا لنُكمل بعض، أكتب هذه الكلمات من ذكرى إتمامنا للعام الثاني على الطريق الذي سلكناه لنتحدث عن مدينتنا.
نحاول منذ الانطلاق أن نربط الحرب والتهجير بسنة، أو شهر على أقل تقدير، لكن لا استطاعة، ما زلت أشتاق كل يوم وكأنه اليوم الأول لي في الاغتراب.
مع كل يوم تتقلص فرصة العودة، يصبح الحديث عن الرجوع ضرباً من الجنون، وكأن العودة طاقةٌ فتحناها في الرئة، كلما ضاقت تنفسنا ولكننا مجبورون على فتحها كل يوم. يسقط الموت في أحضاننا، يصبح أقرب، ما من إمكانية لتفاديه، يؤمن الجميع بالقدر، لذلك لا شيء سيوقف ذاك الموت، فلنتأقلم إذاً.
غارةٌ تستهدف الرقة. لم يُعرف نوع الطيران بعد، فمدينتي تعاني من داء الزحام الجوي. لا تخبروا أمي بذلك، بعد ساعات يُصبح الخبر عادياً، ما لم يأخذ الصاروخ قريباً منك فلا يمسّك شيء!
ما زلتُ أحمل همَّ عائلتي الكبيرة، الناس الذين يعيشون في تلك المدينة، بائعي العربات، الجالسين على أبواب منازلهم في عصرِ يومٍ مشمس، جيران النزوح الديري. آهٍ لو أستطيع إخفاءهم في حقيبتي و أمضي لأي بلاد جامدة، لا صفيح ناري، لا مخططات مرسومة، لا خلافة ولا فيدرالية، قطعة أرض لا يرغب بها أحد، لنعيش بسلام, و نقضي سوية تلك المدة التي لن تتجاوز الستين عاماً على أبعد تقدير.
تزداد برودة هذا الكوكب، سبعة مليارات إنسان يقفون على أرض واحدة ليفرزوا كربوناً بنفس اللحظة, إلا أولئك الأطفال الثلاثة، ما زالوا دافئين، فدماؤهم لم تجف مذ صلبهم الدواعش في دوار النعيم.
أهذي, أجن, أتبهلل, يتسلم مسلمون بطاقات عضوية في حزب مسيحي أوروأمريكي كان يحلل ذبحهم على الهوية. تجتمع دول الأرض لمناقشة ثقب الأوزون و الاحتباس الحراري, يبحثون عن السبب, و كأن الأسلحة التي تدكّ تلك البلاد ليست هنا, ربما على زحل!
يحارب صنّاع الإرهاب العناصر الإرهابية, يبحث المجرمون عن طهارة البلاد العلمانية بدمشق, و يغسلون أيديهم بدماء مدنيي الرقة لتؤدي للعفة، فهم انتصروا على داعش!
ما هم بمحاربين للإرهاب, فلا يخاف الخليفة إلا منّا, يخاف من خيال أصابعه, يرتعد من “صبية أشقياء” رأوا الحقيقة, عرفت عيونهم المفتوحة قبل غيرهم أن “الخليفة عرصا.”
لا زلتُ أستحي من معتز, إبراهيم, أحمد, وناجي, بشكل شخصي, أستحي من فراس حمادي وزاهر الشرقاط وبشر السعدو و محمد الموسى، ومئات ممن قُتلوا, كيف لست أنا من يمكث في القبر بدلاً عنهم؟!
يُخبرني ذلك الشاب الحامل روحه بيده ليوثق انتهاكات الدواعش: “كنت أخاف الموت برصاصة بداية الثورة، لأقبل بعدها به لأنه أفضل من الموت تحت التعذيب. أتصدق أنني أتمنى ترف الموت برصاصة الآن على أن أقضي نحراً ؟!”
عامان مرّا، لم نعد نهاب الموت، بعض الأحداث التي نمر بها تشكل حياتنا من جديد، كولادة جديدة، حتى بتنا لا نشبه أنفسنا.
لا نهاب الموت منذ عامين، لكننا نحترم حضوره، نحترمه بحجم استحقارنا للقاتل، يحضر الموت كرجل وقور, هادئ, يأخذ الأرواح ببرودة, غريب بكل ما فيه.
رفاهية اليوم أن تحظى بوفاة طبيعية في الرقة، أبذخ أنواع الترف أن تموت بجسدٍ كامل، ألّا ترى والدتك آثار التعذيب، أن يقبّل والدك رأسك و هو موصول بجسدك.
يُخبرني جدّي أننا كشعب “فراتي” احترفنا الحزن قبل أن نعيشه، عشنا شهداء الجزائر وقصف بنغازي وسقوط بغداد, فلما أتانا الحزن كنا قد خبرناه.
أشك أن يرانا أحد, ربما نحن اللامرئيون, لا تطفو مآسينا على سطح المجتمع, نملأ الأرض, لكن لا حساب لنا, موتنا وحياتنا سيّان.
اليوم, مر عامان، نحاول أن نجعل كل ما مر بنا شيئاً مؤقتاً، أن نبقى معلّقين أنفسنا ليوم يعود الغرباء فيه, و تنتهي هذه المهزلة, مذ ذاك الحين ونحن نرفض أن يضع أحد خياراتنا ليصفنا بالحريّة عند الاختيار, فما لتلك البلاد إلا أبناءها؛ ما للرقة إلا أهلها، نحن، من لا ننسى بلاداً ثارت من كثر ما غلت تحتها النار .
أراجع ما كتبته عن العامين, لم يتغير شيء, “الرقة تذبح بصمت” بدأناها ثأراً لشهيد, ولم يزد الباقي إلا نارنا استعاراً. ولو مرت بنا الثانية والثالثة والعاشرة, فلن نتوقف إلا عند منزل الخليفة.
الرقة, ثورةٌ أنتِ حتى النصر.