خاص – الرقة تذبح بصمت
الجزء (1)
السؤال المُلحّ الذي يطرح نفسه بقوة لا مهرب من الإجابة عنها هو: كيف استطاع تنظيم “داعش” التغلغل والتسرب إلى كل ثنايا وتفاصيل محافظة كبيرة محررة من النظام، وإعادة احتلالها تقريباً بالكامل؟ ولماذا تمكن من هزيمة كل عناصر وقوى الثورة، المدنية والعسكرية على حدِ سواء؟ وكيف تُفسَّر تلك السهولة في السيطرة؟ علماً أنّ كل ذلك حدث بإمكانات عسكرية وتخطيط بسيط، حقق به التنظيم ظفراً ساحقاً انتهى إلى دحر جميع الفصائل المقاتلة التابعة للجيش الحر في المدينة، والتي كانت تفوقه عدة وعديداً بخمسين ضعفاً على الأقل!.
فلواء أويس القرني ـ على سبيل المثال ـ الذي كانت قاعدته المركزية في مدينة الطبقة، كان يفوق قوة داعش وتسليحه في العدة والإمكانيات، ولواء الفاروق وأحفاد الرسول وجبهة الوحدة والتحرير، كلّ تشكيل مقاتل من هؤلاء كان يمتلك وحده بما لا يقاس، ما يفوق قدرات التنظيم من القوة والمؤهلات العسكرية المنظورة والمباشرة.
وإذا ضربنا صفحاً عن الكتائب الصغيرة التي تعد بالعشرات، والتي كانت كلها تقريباً على جهوزية للتحالف والقتال في صف الثورة ومقاتلي الجيش الحر، فقد يكفينا أن نستشهد بمثال نموذجي: لقد كان عدد الكتائب المسلحة في منطقة تل أبيض وحدها قد وصل إلى مئة وتسع كتائب (بعضها كانت لوحدها أكثر عدة وعتاداً من قوى داعش المحدودة)، فإذا أضفنا إلى ما سبق قدرات الطرفين في المعركة الأخيرة التي خاضها التنظيم ضد لواء ثوار الرقة ومقاتلي أحرار الشام وجبهة النصرة، والتي انتهت بتصفية نهائية لكل القوى المضادة له وإحراز نصر نهائي على الجميع، واحتلال المحافظة بالكامل، وإعلانها عاصمة مركزية لما دعي لاحقاً بمركز الخلافة التي أعلنها داعش في الرقة، فإن شاهد الحقيقة التي لامناص من ذكرها يجب أن يَحتسِب حقائق موثقة من أرض المعركة مباشرة تؤكد على أن عدد مقاتلي داعش في المحافظة لم يتجاوز مع بداية المعركة النهائية 300- 400 مقاتل، بينما كان تعداد عناصر لواء ثوار الرقة وحده والمسجلين تحت السلاح يقارب 1500 مقاتل، مضافاً إليهم مقاتلي جبهة النصرة المتحالفين معهم، ومقاتلي أحرار الشام الذين يزيدون عن 800، فكيف تَحصَّل أن انهارت كل هذه القوى بالتتابع، كسقوط أحجار الدومينو؟ وماهي أسرار ذلك الإنهيار؟ وهل كان مقاتلو داعش أقوياء و”خارقين” إلى مستوى (سوبرماني) الطبيعة، ولا طاقة لكل هذه القوى بالتصدي لهم؟.
قبل الجواب على السؤال السابق لابد من التأكيد على حقيقة مؤكدة ومستخلصة من خبرة موضوعية وتجربة موثقة، وهي أن عناصر ومقاتلي داعش كانوا من حيث الكفاءة القتالية أجبن من عناصر مقاتلي الجيش الحر، وأوهن مقدرة في المواجهات المباشرة معهم. هذه حقيقة مؤكدة وبالمستطاع البرهنة عليها وتوثيقها بسهولة، ونحن هنا ننقل خبرة محددة ومن تجربة خاصة بمحافظة الرقة، وربما تكون هذه الخبرة غير جديرة في التعميم على محافظات ومناطق أخرى، فإذا أضفنا إليها أن 90% من القوى التي كانت تشكل الحشوة القتالية الرئيسية لدى داعش هي من عناصر سابقين في الجيش الحر والفصائل، وقد انشقوا عنه أو خانوه أو طُردوا منه قبل أن يلتحقوا بصفوف داعش في أوقات مختلفة، وجب الإقرار بأن مقاتلي داعش ليسوا “سوبرمانات” هبطوا من السماء كما يتوهم البعض، وبذلك نكون قد حَيَّدنا جانباً فكرة ربما تطيفت في أذهان كثيرين، وهي أن داعش يمتلك قوة ذاتية لا يمتلكها الآخرون، وأن المجابهة معه ربما تكون أصعب وأشد عسراً من سواه، فالجواب على السؤال السابق لابد إذن أن يلحظ الإستنتاجات التالية:
حجم الوهن في تركيبة قوى الثورة المقاتلة ومقدار الضعف الأصلي الذي كان يكتنفها في الإمكانات الذاتية والموضوعية على حد سواء (وهذا موضوع بحث طويل قد نتطرق إليه مستقبلاً)، هذا الضعف البنيوي الموضوعي قد يحيلنا إلى تشبيه مؤكد يقارب الفكرة، وهو أن الجرثومة القاتلة حين تفتك بجسم واهن ومترهل بحجم الفيل، لا يعود ذلك إلى “شجاعة استثنائية”، و”تفوق غير عادي” لديها، وبقدر ما يحثنا الإغراء للتفتيش عن مقدار ودرجة المناعة الكامنة في جسد ذلك الفيل، فإنّ توهّم تلك القدرات الإستثنائية لتلك الجرثومة ليس بعيداً عما يُحيلُنا إليه الواقع من إقرار متوهَم وكاذب بشجاعة مقاتلي داعش و”قدراتهم الأسطورية”، يضاف إلى ماسبق بأن حجم التفوق الإستخباراتي، والمقدرات غير العادية التي كان يمتلكها الأخير ربما يصح فيها القول بأنها “فوق عادية ” بكثير، بالنسبة لقدرات القوى التي أعلنت عن نفسها كقوى مُحرِّرة في محافظة كالرقة، وأكثر من أن تتحملها طاقة محافظة بسيطة الطبيعة السكانية والتكوين والتفكير، فقد نظم داعش قواه المتجهزة للتغلغل والاختراق بطريقة فوق طبيعية، وأصبح التقابل بين تكوينين، أولهما منظم ومهيأ، وثانيهما مهشم ومبعثر وتغلب عليه الفوضى الشاملة، يحقق هذه النتيجة الأكيدة، وهي أن داعش في الحقيقة، قد حسم نصره قبل إعلان النصر، بل وقبل دخول المعركة بزمن طويل.
اعتمد داعش في بداية ذلك التغلغل والتسرب داخل المحافظة على خطة بسيطة ومبدأ بسيط، وهو أن يجتذب عناصره وتكويناتها التي سيعتمد عليها لاحقاً دون أن يُضطرهم إلى إعلان الالتحاق به والإنشقاق عن تكويناتهم القتالية المنضوين تحتها، أو يحثهم على ترك القوى المنتظمين خلالها، من مدنيين وعسكريين .. بل الأصح أنه فرض عليهم أن يبقوا داخل الصفوف دون أي إعلان عن انتماء ما، والمبدأ البسيط يمكن تلخيصه بالقاعدة التالية: (تعال معي، وبايعني ..ولكن إبقَ حيثُ أنت في مكانك من الكتيبة أو التشكيل العسكري الذي تقاتل فيه)، وبذلك ضمن التنظيم نتيجتين، الأولى أن هؤلاء العناصر الذين انضموا إليه تحولوا إلى أمنيين وجواسيس للقوى المنظمة والمؤسسة له منذ البداية. هذا ما يمكن أن ندعوه جوهر وطبيعة الإختراق والثلم الخطير الذي ثلمه داعش في جسدٍ ألِفَ الفوضى واستعراض القوة دون أن يمتلكها في الحقيقة.
أمّا النتيجة الثانية فهي أنّ عناصر التنظيم (خلاياه الكامنة داخل جسد الفصائل والثورة عموماً) شكلوا شرخاً طبيعياً في جسم تلك الفصائل التي كانوا ينتسبون إليها، ويحسبون عليها ونفاقاً مضمراً في الأداء والولاء، فإذا أضفنا أن هذه القوى التي كانت تملأ ساحات المحافظة طولاً وعرضاً، تقعقع بالسلاح وتستعرضه فيما يشبه البهجة بالنصر الذي احرزته على النظام، لم تكن تمتلك أية بنية أمنية كاشفة ومكافئة لما كان يمتلكه داعش، وليست في وارد التصدي الإستخباراتي الأمني لذلك التغول السري المهول الذي لم تكن تراه ولم يخطر لها ببال، مجموع هذه العوامل التي رتبت الفشل وهيأت بالتدريج لانتصار داعش، بالإضافة إلى عوامل أخرى كانت أشبه بنتيجة طبيعية وتحصيل حاصل، فعلى سبيل المثال وحتى يكون مفهوماً حجم الإختراق الذي أحدثه داعش بنيوياً داخل جسم هذه الفصائل سوف نستشهد بشاهدين: قبل يوم واحد من بدء المعركة الأخيرة مع لواء ثوار الرقة كان عدد المسجلين تحت السلاح والمتجهزين للقتال ضد داعش يقارب 1500 مقاتل، وما إن بدأ القتال حتى أصبح العدد خلال ساعات 400 مقاتل فقط، أي أن 1100مقاتل تبخروا خلال الساعات الأولى للمعركة بعد أن أوعز داعش للقوى التي نظمها سراً بالإنسحاب والاختفاء، كذلك يجب أن نضيف بأن بعض هؤلاء “المختفين” فجأة من ساحة المعركة قد تحولوا إلى صف داعش وشرعوا يقاتلون معه، فضلاً عن أن العناصر المؤثرين، كالأمنيين والإداريين وبعض أهم القادة العسكريين الذين طلبت منهم قيادة داعش البقاء والإستمرار في صفوف اللواء لموافاتها بتفاصيل الأخبار وإبلاغها بأحدث التطورات والمستجدات، إلى أن تحين اللحظة المناسبة لإعلان انشقاقهم والتحاقهم بصفوفه لاحقاً، أما المثال الثاني فيتعلق بلواء (أويس القرني) الذي كان من حيث العدة والعتاد، يكاد يكون الأول على مستوى المحافظة، فقد سلّم أسلحته وبعضاً من مقاتليه للذبح، دون قتال، ودون إطلاق رصاصة واحدة، وقرر أن يتبخر ويلغي نفسه بنفسه دون أن يقدم تفسيراً لذلك حتى اليوم.