صحفى ذهب لعمله على جبهة قتال منذ سنوات ولم يعد، صحفى وجد أهله صورته تعلو شاشات التليفزيونات مختطفا تحت سكين داعش، مصورة كشفت بكاميرتها جريمة فهددها المرتكبون بالقتل ونفذوا تهديدهم، عشرات القصص لعشرات الصحفيين فى مصر والمنطقة والعالم، يدفعون حياتهم ثمنا من أجل خبر أو صورة أو تحقيق، من ميدان ثورة هنا أو جبهة قتال هناك، أو فى أعالى البحار، بين مراكب اللاجئين الغارقة.
شهداء الحقيقة
تكشف إحصائيات اللجنة الدولية لحماية الصحفيين عن حصيلة بلغت 327 صحفيا فى مناطق متفرقة من العالم، معظمهم فى المنطقة العربية، لقوا حتفهم أثناء عملهم أو بسببه، خلال السنوات الخمس الماضية فقط.
كانت الفضائيات والصحف العربية، فى وقت سابق على أحداث الربيع العربى، تفرد مساحات البطولة والتأريخ والرصد لصحفى يتبعها أو فنى يعمل معها، سقط أو سقطت فى إحدى مناطق القتال، إلا أن أنهار الدماء التى أريقت على مدار 5 سنوات، جعلت من وفيات الصحفيين الذين يقومون بتغطية هذه الأحداث، خبرا جانبيا لا أهمية له.
سنوات الحرب والقتال فى سوريا، كانت فى بدايتها مركز اهتمام ومتابعة صحفيي العمليات الخاصة، المهووسين بكشف الحقائق من موقع الحدث، عشرات الصحفيين قضوا نحبهم فى السنوات الأولى من أحداث سوريا وليبيا، إما بالرصاص أو بالقذائف أو بالاستهداف المباشر، وتاه حامل الكاميرا وكاتب الخبر وسط جثث الضحايا، حتى صارت المؤسسات الصحفية تعتمد مراسلين محليين ينقلون لها الصورة والخبر.
داعش .. صائد الصحفيين الأكبر
اعتمد التنظيم الإرهابى الأخطر فى العالم داعش على استراتيجية إعلامية تقوم على الانتشار من خلال بث مشاهد القتل والتمثيل المرعبة، تلك المشاهد التى يعمد المتلقى على مشاركتها بشكل تلقائى تبيانا لما يرتكبه داعش من جرائم مخيفة، وبشكل غير مباشر يمارس المتلقى الدعاية للتنظيم دون أن يقصد، بأعلى نسب مشاهدة وتعليق عبر مواقع التواصل الاجتماعى.
تلك الاستراتيجية التى اعتمدها داعش تقوم على عناصر التنظيم وأتباعه، عملوا على تطبيقها بمستويات أداء عالية حققت لها الانتشار عالميا، غير أن الصحفيين من غير المنتمين للتنظيم، كانوا العدو الأول له، حيث عمدوا إلى نشر مواقع انتشاره وسيطرته ونقاط ضعفه، ومن ثم كانوا الهدف الأول له.
الرقة تذبح بصمت
«الرقة تذبح بصمت» .. صفحة إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعى، يحررها صحفيون ومواطنون من المدينة التى تمثل المعقل الرئيسى لداعش فى سوريا، ومالبث هذا الموقع الإخبارى أن تحول لأهم مصدر للأخبار والمعلومات عن «داعش»، وأكبر ثغرة يعانى منها التنظيم الأشرس فى العالم، ففى القلب من مركز حكمه بسوريا، كان هناك صحفيون متطوعون يعملون تحت أقصى درجات الخطر، وأصعب مناخات العمل، وأعلى درجات السرية، يضربون مثلا جديدا فى الشجاعة والتفانى، وينقلون للعالم حقيقة ما يجرى فى المدينة الأسيرة الواقعة تحت سيطرة الإرهاب الأسود، بينما الجميع يتخفون ويهربون.
ذاع صيت «لرقة تذبح بصمت» سريعا كمصدر معلومات أساسى عن المدينة الأسيرة، وكرمتها لجنة حماية الصحفيين في عام 2015 بمنحها الجائزة العالمية لحرية الصحافة، وفى أكتوبر الماضى قام داعش باغتيال الصحفيين فارس حمادي وإبراهيم عبد القادر أبرز محررى الصحيفه نحرا فى إحدى مدن تركيا.
ومن سوريا إلى الصومال، فقدت الصحفية هندية حاج محمود زوجها الذى كان يعمل صحفيا فى عملية إرهابية غادرة، فما كان منها إلا أن أكملت طريق زوجها، واستمرت بالعمل الصفحى لوكالة إخبارية تابعة للحكومة، العدو الأول لحركة الشباب الصومالية، وفى ديسمبر الماضى أيضا، اغتيلت الصحفية الشابة على درب زوجها، بتفجير سيارتها فى عملية إرهابية أعلنت حركة الشباب مسئوليتها عنها.
تلك نماذج من أكثر من 300 نموذج لصحفيين منحوا حياتهم فداء للحقيقة، خلف كل منها قصة بطولة مختلفة، طمرت فى زحام الضحايا الذين سقطوا بالمنطقة عبر السنوات الدامية الماضية.
سبل السلامة
دراسة متخصصة أعدتها الباحثة فى مجال أمن وسلامة الصحفيين الدكتورة حنان الجندى، أكدت أنه بعد انطلاق ثورات الربيع العربى فى منطقة الشرق الأوسط، ارتفعت حدة النزاعات وانتشرت حالات العنف الداخلى التى أدت الى ازدياد متاعب الإعلاميين أثناء تغطيتهم للاحداث فى سوريا و مصر والعراق و ليبيا والصومال والعديد من دول العالم.
ولعل الدور الذى تلعبه وسائل الإعلام أثناء النزاعات المسلحة هى أحد الأسباب التى تدفع الأطراف المتحاربة لمحاولة السيطرة على ما يبعث به المراسلون من أنباء، إلا أنه، ومع التقدم الكبير فى وسائل الإعلام، لم يعد باستطاعة الأطراف المتحاربة السيطرة على وسائل الإعلام ، ومن ثم لجأت للاعتداء المباشر على الصحفيين، وفق ما أوضحت الدراسة.
وبينت الدكتورة الجندى أن اتفاقية جنيف الثالثة عام 1949 أكدت على أن الصحفى الذى يقع فى قبضه العدو يعتبر أسير حرب، مما يشير إلى نقطة غاية فى الأهمية، وهى اقتصار الحماية القانونية لصحفيي الحروب على مراسلى الحروب المعتمدين لدى القوات المسلحة، أما الصحفيون المدنيون فلا غطاء حماية لهم، ولا قانون يكفل حمايتهم.
وعلى الرغم من كل ما لدى الأمم المتحدة ووكالاتها من آليات ووسائل تمكنها من معالجة مسألة السلامة للصحفيين، ما زال عشرات الصحفيين والعاملين فى وسائل الإعلام يقتلون كل عام خلال تأديتهم لعملهم الصحفى، ولا يتم التحقيق فى كتير من هذه التجاوزات، وتظل غالبا بلا عقاب.
الإفلات من العقاب
وحذرت الدكتورة الجندى فى دراستها – كذلك- من مسألة الإفلات من العقاب، باعتباره معضلة كبيرة تؤرق الصحفيين كواحدة من أكبر العقبات التى تحول دون حماية فعالة لهم، وأكدت ضرورة إجراء تحقيقات سريعة ومستقلة فى الاعتداءات وفقا للمعايير الدولية وإحالة مرتكبى هذه الجرائم للمساءلة القانونية، داعية فى الوقت نفسه إلى قوانين على المستوى المناسب، وإنشاء فرق تحقيق خاصة، وتطوير الخبرات فى الطب الشرعى وكذلك تحسين عناصر مختلفة من النظام القضائى، فضلا عن دور المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان كآلايات للرصد والتقييم يمكن أن تضطلع بدور فعال بهذا الصدد.
تجارب ناجحة
تولى المؤسسات الإعلامية الكبرى اهتماما كبيرا بقضية السلامة المهنية للإعلاميين خاصة التابعة منها للدول الغربية، وخصصت ميزانيات ضخمة لكى يتمكن إعلاميوها من الحصول على دورات تدربية تتعلق بالحماية والسلامة المهنية، بالإضافة الى شراء معدات للحماية كسترات الواقية والخوذ و هواتف النقال التى تعمل بالاقمار الصناعية والتى تضمن للصحفى التواصل مع مؤسسته حتى بعد انقطاع الاتصالات والانترنت داخل البلد التى يوجد فيها، حسب ما أوضحت دراسة الدكتورة حنان الجندى.
كما تحرص المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل هيئة الاذاعة البريطانية و دوتش فيلا الألمانية، ووكالة الأنباء الفرنسية وغيرها على حصول الافراد الذين يتم تكليفهم بمهام عالية الخطورة على دورة التدريب الخاصة بالعمل في مناطق عدائية والاسعافات الأولية.
وفى مصر، بدأت المؤسسات الإعلامية والصحفية تعترف بأهمية قضية السلامة المهنية للإعلاميين والصحفيين مؤخرا، لاسيما بعد ثورة 25 يناير، والتى راح ضحيتها عدد من شهداء الصحافة المصرية، كما فقد العديد من مصورى الصحف والتليفزيون أعينهم أثناء تغطية الأحداث، بالإضافة إلى ظهور حالات التحرش بالاعلاميات و الصحفيات فى الشوارع، لذلك قررت لجنة تطوير المهنة و التدريب التابعة لنقابة الصحفيين المصريين بعقد دورات تدريبية مكثفة للصحفيين و الإعلاميين المصريين حول الاسعافات الاولية و احتياجاتها فى العمل الصحفى بالتعاون مع الهلال الاحمر المصرى والصليب الاحمر الدولى، بالإضافة الى دورات تدربية مكثفة اخرى عن التغطية الاعلامية فى مناطق الصراع و الحروب، كما انبثق عن الجماعة الصحفية لجنة تطوعية هى لجنة الشهيد الحسينى أبوضيف لحماية حقوق الصحفيين الذين يتعرضون للعنف أثناء التغطية الاعلامية، وكان من أهم مهام هذه اللجنة توثيق أى حادث عنف تجاه الإعلاميين والصحفيين.
وخلصت الدراسة إلى عدد من التوصيات أهمها ضرورة تطوير التدريب فى مجال السلامة المهنية للصحفيين، ووضع آليات للإنذار المبكر حول مواقع الخطر، على المستويات المحلية والإقليمية، ووضع تشريع متماسك لضمان وجود نهج لحماية الصحفيين، وبرامج وطنية لحماية الصحفيين، وتصنيف الاعتداء على الصحفيين بأنه جريمة ضد الديمقراطية للتأكيد على الطبيعة الخاصة والخطرة لهذه لجرائم، وإنشاء آلية للتبليغ عن سلامة وأمن الصحفيين فى مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة .
المصدر : ahram.org.eg