خاص – الرقة تذبح بصمت
خمس سنوات مضت منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة في سورية، الثورة التي قامت بوجه الانتهاكات الممنهجة التي تعرض لها الشعب السوري طيلة عقود على يد نظام الأسد وأبيه، هذه الانتهاكات طالت أبسط الحقوق التي يفترض أن يتمتع بها الناس في القرن الحادي والعشرين.
الغريب في الأمر أن النظام وزبانيته لم يتعظوا بما جرى للبلاد والعباد طيلة السنين الماضية، بل إنهم ما فتؤوا يزدادون عنفاً وإجراماً وإمعاناً في إمتهان كرامة المواطنين وإذلالهم كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فالمتابع لسلوك النظام وميليشياته الطائفية يلحظ بوضوح أن هذه الانتهاكات تطورت منذ بداية الثورة السورية، حيث اصبحت تمارس على نطاق واسع وبشكل علني ومفضوح دون حسيب أو رقيب، كما أنها باتت تطال جميع شرائح الشعب وطوائفه وإثنياته المختلفة، دون تمييز بين كبير أو صغير أو رجل أو امرأة.
ومن جهتهم فإن أهالي الرقة وجوارها يعانون بشكل مضاعف من ممارسات النظام والتنظيم على حد سواء، وخاصة أذا ما أراد أحدهم السفر من مناطق التنظيم باتجاه المناطق التي يسيطر عليها النظام بغية الحصول على أوراق ثبوتية رسمية كالبطاقات الشخصية وجوازات السفر وسائر المستندات العائلية، وتبدأ المعاناة من الاضطرار إلى الحصول على الموافقات والأذون من قبل عناصر التنظيم المتطرف ومكاتبه الأمنية، مروراً بجملة من التعقيدات والقرارات التي تم فرضها على المسافرين ومرافقيهم وشركات النقل والسائقين ومركباتهم كل على حده.
أما النساء اللاتي يرغبن بالسفر فإنهن يخضعن لمزيد من التعقيد والتدقيق من قبل التنظيم الذي يدعي حرصه على “نساء المسلمين وأعراضهم”، حيث يتوجب على المرأة فضلاً عن اصطحاب المحرم الحصول على موافقة مسبقة من التنظيم قبل مغادرة الأراضي التي يسيطر عليها، الأمر الذي فتح باباً جديداً من أبواب المحسوبية والرشوة التي باتت تنتشر في صفوف عناصر التنظيم ولا سيما المحليين منهم، ويبدو أن هذا السلوك لا يدل على الفساد والرغبة في الحصول على المال فحسب بقدر ما يدل على تململ العناصر المحلية من أحكام التنظيم وممارساته تجاه النساء بشكل خاص.
بعد الخروج من مناطق التنظيم تبدأ معاناة من نوع آخر، حيث يضطر المدنيون إلى سلوك طرق وعرة وطويلة جداً لبلوغ المناطق التي يسيطر عليها النظام، فهم معرضون طيلة الطريق لاحتمال القصف من قبل القوات الجوية المتعددة العاملة في السماء السورية، كما حصل مؤخراً عندما تعرضت إحدى الحافلات المتجهة من الرقة إلى دمشق للقصف من قبل الطيران الروسي مما أودى بحياة العشرات من الركاب المدنيين.
ومن جهة أخرى يتوجب على المسافرين المرور على عدد كبير من الحواجز لعناصر النظام وشبيحته وميليشياته الطائفية الذين لا يدخرون جهداً في سبيل ابتزاز المسافرين وسلب أموالهم وممتلكاتهم، بدءاً من المبالغة في تدقيق البطاقات الشخصية بحجة البحث عن المطلوبين الأمنيين أو المتخلفين عن الإلتحاق بالخدمة العسكرية، والتفتيش الدقيق والمستفز للأشخاص والمركبات والأمتعة وحتى الهواتف النقالة، فهم يبحثون عن أي عذر مهما صغر من أجل الإعتقال والتوقيف أو الحصول على الرشوة (وإن لم تكن مالية) في أضعف الأحوال.
ولا تنتهي المتاعب كما يفترض لدى الوصول إلى العاصمة دمشق، حيث استحدث النظام مؤخراً كراجاً خاصاً للمواطنين القادمين من محافظتي الرقة ودير الزور يسمى بكراج “عدوية”, ويشرف على هذا الكراج عناصر من الدفاع الوطني وهم مجموعة من الشبيحة تحت مسمى قوات المصالحة الوطنية … وأي مصالحة، حيث يقوم عناصر الكراج المذكور بتفتيش شخصي علني ودقيق للرجال والنساء دون تمييز وفقاً للشهادات التي وردت إلى مراسلي “الرقة تذبح بصمت” داخل مدينة الرقة.
وفي هذا السياق أخبرنا “خالد” وهو اسم مستعار لأحد الشباب الذين شاهدوا مثل هذه الممارسات أثناء سفرهم إلى دمشق قائلاً: “بعد تكبد عناء السفر وما لقيناه على الطريق من مخاطر ومضايقات من عناصر التنظيم والنظام وصلنا إلى دمشق، ولدى وصولنا قام عناصر الكراج المخصص لنا (وقسم منهم من أبناء المنطقة الشرقية) بعزل النساء عن الرجال وباشروا في تفتيش الجميع على الفور، لقد كانوا يفتشون النساء أمام أعين الجميع بطريقة قذرة ومقززة أقرب إلى التحرش الجنسي منها للتفتيش، كما أنهم اقتادوا بعض النسوة إلى غرف مستقلة واستمر غيابهن لما يزيد عن الساعة بحجة التفتيش المعمق.”
يضيف خالد: “خرجت إحدى السيدات من تلك الغرف وهي شابة في مقتبل العمر كانت تسافر برفقة امرأة عجوز وشاب صغير في العمر وحالتها ليست على ما يرام، حيث كانت بحالة مزرية والدموع تنهمر من عينيها، ولقد علمت من العجوز التي تسكن في حي مجاور لمنزلي أن عناصر الكراج تحرشو بالمرأة، وفي هذه اللحظة تجمد الدم في عروقي وانتابني غضب شديد ولكني لم أعرف ماذا افعل، فأي كلمة أنطق بها سوف تكلفني حياتي، والتهمة جاهزة ولا تحتاج إلى أي محاكمة، فأنا (داعشي وإرهابي).”
ويبدو أن هذه الحالة ليست حالة فردية ومعزولة, حيث تفيد الشهادات التي سبق ذكرها أن هذه التصرفات والممارسات المشينة تتكرر بشكل متواتر على حواجز النظام والكراج سيء الذكر بالنسبة للمسافرين القادمين من المناطق الشرقية.
وقد يقول قائل أن هذه الاعتداءات والحوادث تعتبر بسيطة بالمقارنة مع المجازر التي يرتكبها نظام الأسد بحق سائر الشعب السوري، ولكنها ليست بسيطة بالمرة بنظر معظم الشعب السوري عامة وأهالي المناطق الشرقية بشكل خاص، فهي لا تقل بشاعة عن جميع جرائمه التي يجب على “العالم المتحضر” أن يأخذ منها موقفاً حازماً ليس عبر استنكارها والتنديد بها وحسب وهو أقل المطلوب، بل عبر المبادرة إلى وقفها ومنع تكرارها ومحاسبة وعقاب المسؤوليين عن تنفيذها.
والأمر لا يتعلق فقط بصون كرامة السوريين واحترام أبسط حقوقهم وهو واجب ومطلوب، بل يتعدى ذلك إلى منع المتطرفين الذين يعيثون في البلاد فساداً وإجراماً من استغلال مثل هذه الحوادث والاعتداءات كعنصر جذب للمزيد من المقاتلين والمناصرين وحتى المتعاطفين من أوساط الناس المظلومين والمتضريين من هذه التصرفات والممتعضين منها على أقل تقدير، كما أنها سوف تكون مادة دسمة للماكينة الإعلامية التابعة للتنظيم ومبرراً مشروعاً لهم من جهة أخرى من أجل مواصلة حروبهم وقتالهم للنظام “النصيري الكافر” على حد وصفهم، الذي يقتل السوريين ويفتك بأعراضهم دونما رحمة أو هوادة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.