لا أعرف من أين سأبدأ الحديث عنها؟ صعبة ٌومُرهِقةٌ هي الكتابةُ عن المدن التي تنتمي لها، صعبٌ أن تترجمَ أيامك إلى كلمات تضعُها في هذه الصفحةظ البيضاء التي تراها قُبَالَتُكَ، لذا كان لزاماً عليَّ أن أطلب المساعدة من أحد العاشقين لها والذي أُبعد قسراً عنها، تحرَّشت به وقلتْ له: احْكِ لي عن مَحبوبتكَ قليلاً، طبعاً جاء ردهُ «فائراً» ومضى يقول عبر «الواتساب»:
«الرَّقةُ ونهرها وأهلها، ثالوثٌ للطِيبة والجود والبساطة، أبواب منازلهم المفتوحة تشرِّعُ لكَ الحق في الولوج إلى قلوب ساكنيها، ستسمعُ ترحيبهم يملأ المدينة ضجيجاً (الله حيو.. تفضل.. مرحبا بك.. مية مرحبا.. فوت فوت لا توقف عالباب عيب)، وعند السير في شوارعها، باللاشعور سيشاركُكَ رجالها، نسائها، أطفالها، شبابها وشاباتها، الحديثَ والترحاب، فتلك المدينة لا يروق لها بناء الفنادق فيها، يعتبرونها إساءةً وانتقاصاً لمنازلها المفتوحة على الدوام، إياكَ أن تسأل أهلها أين أجد فندقاً! سيبادرك بالعتب ويقول لك: يخسى زمان الشر بالرقة وتدور على فندق.. عَجَل ما عدنا بيوت!»
لكوني ابن قريةٍ صغيرة «بندرخان»، تقعُ في أخر الأرض «عشرون منزلاً على الحدود التركية_السوريّة»، وتبعدُ عن الرقة 100 كم، كانت الرقة بالنسبة لي هي العالم الكبير الذي أزوره كلّما حالفني الحظ. وكان بيتُ خالي هو صورة المدينة العالقة في ذهني، مدينةُ الملاهي و«الأتاري» وحفلات شراء الملابس المخصصة لكل السنة، التي تتولاها أمي وخاصة من شارع المنصور، بيوتٌ متناثرة للأقارب الذين نبقى عندهم حين زيارتها.
لاحقاً عند دراستي للثانوية هناك، عرفتُ أسرار هذه المدينة، تشكّلت شخصيتي فيها وعشتُ فيها أولى مراحل الاستقلالية، سنواتٌ ثلاث قضيتها رفقةَ أختي وجدتي «حبابتي»، كانت كافيةً بأن أتطبّع بطباع أهلها وأن أقول للأخرين أني «رقاوي». لكن بمجرد خروجك من الرقة إلى المحافظات الأخرى، وحين سؤال الآخرين لكَ: من أين أنت؟ تدركُ حجم التهميش والنكران للمكان الذي جئتَ منه. أذكرُ أنّ واحدةً من زميلات الدراسة «كانت من طرطوس» في المعهد الذي كنت أدرس فيه بمحافظة الحسكة، وعَقب خروجنا من درس للكمبيوتر الذي كان حينها حدثاً مُستجدّاً، قالت لي: «والله بتعرف تشتغل عالكمبيوتر! انتو بالرقة مو ساكنين بخيم؟»، فأجبتها: «إيه بس واصلها الكهربا من سد الفرات!»، ولاحقاً في مدنٍ سوريّةٍ أخرى، وبمجرد سماعهم للهجتك، لا يصدقُ بعض الأشخاص إنّك سوريّ، بل يجزمون أنك عراقي، أو يتندّرُ عليك الأخرون بأنّهم لم يعرفوا ويسمعوا بهذه «الرقة» التي أنتَ منها.
هذه الشكوى من التهميش والإهمال، استمرّت لاحقاً بعد اندلاع الثورة. اتهمها البعض «بالتشبيح» بالرغم من خروج أهلها في ثاني جُمَعِ الثورة السوريّة «جُمُعة الغضب»، وإن كان بعددٍ قليل، لكنها سبقت كثيراً من المدن الأخرى. والكل يذكرُ ذلك التجمهُرُ الشعبي الحاشد، أثناء تشييع شهيدها البابنسي، الذي خرجت فيه المدينة في منظرٍ مَهيب استمرّ لفترة طويلة، وحاول فيها المتظاهرون الاقتراب من تمثال حافظ الأسد، «هُبَل» كما يسميه الرقاويون.
دارت عجلة الأيام، وتحرّرت المدينة كاملةً وأصبحت «عاصمة للتحرير»، وأُسْقِط فيها تمثال الأسد الأب، ورفرفرت فيها أعلام الثورة، وكانت أملاً في سورية الأخرى التي لا أسد فيها. لكنّ كلها هذا لم يكن له أثر، إذ تجاهلتها المعارضة وهمّشتها، إلى أن جاءت «داعش» وأعلنت «خلافتها». حينها صار القاصي والداني يعرف الرّقة، أصبحت الرّقةُ تتصدر شاشات العالم، وصار لفظها لا يفارق ألسنة كبار الرؤساء والقادة في العالم.. يا لحماقة الأقدار وتصاريفها الظالمة!!.
بدأت حفلات الموت، وعمَّ السواد جَنَباتها، وأصبحت الرقة مدينة كوزموبوليتانية، يُرى فيها رجال ونساء من كل أصقاع الأرض، وتُسمع فيها لهجات ولغات مختلفة وكأنك في الأمم المتحدة. تشكّلت الأحلاف لمحاربة الإرهاب فيها، لكنّ الطيارات التي تعجُّ في سمائها لم تحارب إلاَّ أهلها، إرهابٌ أرضي تمثّلهُ «داعش» فَتَكَ بأهلها وسجنَ شبابها وصلبهم في الساحات، وإرهابٌ سماوي تمثّلهُ طائرات الأسد والروس والتحالف الدولي، الذين يقصفون ويقتلون أبنائها بحجة محاربة الإرهاب.
ولعل الإرهاب الأكثر إيلاماً هو الصمت عن كلِّ ما يحدث فيها، وتجاهلها من قبل ذوي القربى «الثّوار السورييّن» قبل بقية العالم، فهذه البقعة من العالم هي «حاضنة شعبية» للإرهاب، وأهلها «دواعش»، فلا ضيرَ ولا غضاضةَ أن «يُذبحوا بصمت». بينما تُعقد الهدن وتُستؤنفَ المفاوضات، وبينما يرجعُ السوريّون إلى الشوارع وهم يعيدون للثورة سيرتها الأولى؛ تعودُ طائرات الأسد لترتكب أفظع المجازر في الرقة، حيث لا هدنة هناك ولا فسحةً للحياة، بل كرنفالٌ متواصلٌ للموت والدمار، اسمهُ الرَّقة.
مصطفى الجرادي