خاص – الرقة تذبح بصمت
مع مرور الأيام يفقد تنظيم داعش “صاحب شعار باقية وتتمدد” المزيد من الأراضي التي كانت بحوزته، وتنحسر الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها يوماً بعد يوم، واللافت للنظر أن التنظيم يستميت بالدفاع على خطوط التماس في جبهاته مع الجيش الحر بينما يترك المناطق واحدة تلو الأخرى لصالح قوات النظام والمليشيات الموالية لها مثل قوات سوريا الديمقراطية وغيرها.
وكالعادة فإن محصلة الهزائم والاضطرابات العسكرية التي يعاني منها التنظيم تنعكس بصورة مباشرة على المدنيين الذين يرزحون مكرهين تحت سلطان خلافته المزعومة، ويبدو أن القدر ما زال يعاند السوريين فهم يتنقلون من سلطة غاشمة إلى أخرى ولا منجي ولا مغيث لهم، فالمدنيون الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم يعانون الأمرِّين، فالتنظيم يلاحقهم بممارساته وقراراته التي تضيق عليهم الخناق وتسد جميع الأبواب في وجوههم من جهة، كما أنهم يعانون من الجهة الأخرى من الانتهاكات التي تمارسها القوى التي جاءت لكي تحررهم بزعمها تحت شعارات الحرية والديمقراطية، ولكن هذه القوى اكتفت بحمل الشعارات والمسميات دون أن تنعكس في تصرفاتها على أرض الواقع.
بدأت وحدات حماية الشعب YPG تحت مظلة قوات سورية الديمقراطية بالتقدم تجاه مناطق التنظيم على عدة محاور، وبدأ المدنيون من جهتهم بالنزوح من المناطق التي خرجت عن سيطرة التنظيم أو تلك التي بات سقوطها وشيكاً بإتجاه مدينة الرقة ومحيطها، فالمدنيون لا يقصدون مناطق التنظيم حباً به ولكنهم ضاقوا ذرعاً جراء الانتهاكات التي تقوم بها هذه الميليشيات في المناطق التي تسيطر عليها عقب انسحاب التنظيم منها، بدءاً من الاعتقالات العشوائية بتهم زائفة ملفقة والتهجير العرقي الممنهج التي تقوم به لتفريغ هذه المناطق من المكون العربي تمهيداً لإنشاء دويلتهم المنشودة على أنقاض وأشلاء سكانها الأصليين.
ومن جهة أخرى لم يتمكن المدنيون من العودة إلى قراهم التي انسحب منها التنظيم شمال الرقة وتركها لقمة سائغة للميليشيات الكردية، لأن هذه الميليشيات “الديمقراطية” تشترط وجود كفيل من أجل السماح بعودتهم إلى قراهم ومنازلهم المدمرة والمنهوبة، وهكذا لم يستطع سكان مناطق عين عيسى وسلوك من العودة إلى ديارهم حتى الآن وعددهم يقارب الخمسين ألف نسمة بالرغم من انتهاء المعارك في مناطقهم منذ شهور.
وفي الجهة المقابلة يرزح المدنيون في مناطق التنظيم في ظل ممارسات وحشية وانتهاكات جسيمة لأبسط الحقوق التي يتمتع بها الإنسان، والأنكى من ذلك أن التنظيم لا يسمح لهم بالخروج من مناطقه والنجاة بأرواحهم وأطفالهم وما خف حمله من ممتلكاتهم، فهم أصبحوا أسرى لدى التنظيم داخل سجن كبير يسمى “أرض الخلافة”، ولا يجوز لهم الخروج منها إلا بعد الحصول على ورقة من قبل جهاز الحسبة سيء الصيت، ومن يتجرأ منهم على مراجعته وطلب الإذن منه بالرحيل سوف يعاني من تحقيق مفصل حول الأسباب والظروف التي تدفع به للخروج من ديار المسلمين إلى أرض الكفار والمشركين، وأما من يتجاهل هذه التعليمات الصارمة ويغادر دون إذن مسبق من التنظيم فسوف يكون عرضة للإعتقال ومصادرة الأموال والأملاك.
أما الخيار بالتوجه نحو مناطق النظام فهو صعب للغاية ولا يدخل في حسبان المدنيين في الرقة أصلاً، فالاشتباكات تكاد لا تتوقف على خطوط الإمداد بين مختلف الأطراف المتنازعة على الطرق التي تفصل بين كل من مناطق النظام والتنظيم والمعارضة المسلحة، ناهيك عن ملاحقة النظام للشبان والرجال من أجل سوقهم والزج بهم في صفوف قواته المتهالكة، فضلاً عن المعاملة السيئة والمهينة من قبله بحجة ارتباطهم بالتنظيم أو مجرد القبول بالعيش في المناطق التي يسيطر عليها.
وإزاء هذا الواقع المعقد والمتشابك، يقف المدنيون حائرون وعاجزون عن التصرف فجميع الأبواب أوصدت في وجوههم، ولا سبيل لديهم للخروج من هذه المعاناة المستمرة، وبات الكثيرون منهم يرون أن البقاء وانتظار الموت هو أسهل الخيارات، وفي هذا السياق يحدثنا “أحمد” وهو اسم مستعار لشاب تمكن مؤخراً من الخروج من الرقة قائلاً: “خططت للخروج من الرقة منذ ما يزيد عن شهر، أنا وعائلتي المؤلفة من أمي وأخوتي الثلاثة, خرجنا برفقة مهرب بإتجاه الريف الشمالي للمدينة الذي بات الخروج إليه في حاجة إلى عملية تهريب معقدة وطرق إلتفافية طويلة، استمرت الرحلة قرابة الثلاثة أيام في طرق محفوفة بالمخاطر والخوف من التعرض لقصف الطيران الذي لا يفارق الأجواء، أو التوقيف على أحد حواجز التنظيم بتهمة الفرار من أراضيه، أو الاعتقال من قبل القوات الكردية التي تشتبه بانتماء جميع المواطنين العرب إلى تنظيم داعش.
عند وصولنا إلى الريف الشمالي كنا في ضيافة أحد أبناء المنطقة من أقاربنا الذي تمكن من تأمين مسكن مناسب لإقامتنا، لأن طريق الخروج من هناك بإتجاه الاراضي التركية صعب ومعقد للغاية, مكثنا في هذا المسكن مدة 20 يوماً حتى تمكنا من الوصول إلى تركيا، وبلغت تكلفة هذا الهروب حوالي 500 دولار امريكي للشخص الواحد, خرجنا بثيابنا فقط وتركنا كل شيء وراءنا, مشينا لساعات طويلة في الظلام الحالك والبرد القارس والطرق الوعرة، تمزقت ثيابنا على الاسلاك الشائكة ومرت الطلقات من فوق رؤوسنا عدة مرات، وكان الموت محدق بنا في كل خطوة طيلة الطريق، ولكننا تمكنَّا أخيراً من الخروج من الجحيم المرعب إلى مكان أكثر أمناً.”
تمكن “أحمد” من الهروب وعائلته من الرقة، ولكن هنالك ما يزيد عن 500 ألف مدني باقون في المدينة لا طريق لهم للهروب وليس لديهم الكثير من الخيارات سوى البقاء وانتظار لحظة الفرج التي لا يبدو أنها تلوح بالأفق في الوقت الراهن.