خاص – الرقة تذبح بصمت
بملابس رثة متسخة يترجّل من السيارة رفقة ثلاث نساء تتشحن بسواد يتخلله بياض الأتربة، يُقبل من بعيد لا يحمل أمتعة لكنّ هموماً أخرى تحني ظهره، بخطوات ثقيلة يخرج من مكان وقوف السيارات القادمة ويبدأ بالسؤال “وين طريق التيل” وهو طريق يستخدم عادة للدخول بشكل غير شرعي إلى تركيا هرباً من الموت.
أبو أمجد رجلٌ خمسيني رفض الكشف عن اسمه الحقيقي، فعلى الرغم من مغادرته أراضي سيطرة تنظيم “داعش”، إلا أنه عللّ موقفه بإجابة مختصرة “اللي ما يخاف الله خاف منو وما طلعني من الرقة غير كوم هاللحم” مشيراً إلى نساء ترافقنه.
جلس على الأرض وأطلق تنهيدة ونظر إلى السماء فيما تُسمع أصوات انفجارات تهز المنطقة قبل أن يخاطب من حوله بلهجته الرقاوية “هاتوا ناوشونا كاسة شاي ياهل المروة تراني على لحم بطني من البارح انهزمنا من داعش تانجي نموت بطيران بشار وروسيا” ليكسر رهبة الموقف ويدفع من حوله للإبتسام رغم البرد الشديد.
“ابن أخوي بي واحد يبيع دخان ولا حتى هون عدكم حسبة”، يسترسل أبو أمجد وكأنه بحاجة لأي شخص يروي له قصته التي وصفها بـ”الملحمة التي لا تراها حتى على شاشات التلفاز”.
أخذتُ بيده وأوصلته إلى “كافتيريا” كما يطلق عليها الزبائن، حيث توجد بضع كراسي وشخص يجلس خلف طاولة يقدم الشاي والقهوة، بعد أن أوصلنا النساء اللواتي كن برفقته إلى أحد المنازل القريبة التي استقبل أهلها اللاجئين والقادمين للعبور إلى تركيا، منازل لا تحكمها السياسة الدولية ولا تطالب بمساعدات دولية لتحمل ضغط القادمين إليها.
أضع كأس الشاي أمامه بينما يسحب السيجارة ويشعلها ليبدأ حديثه: “لم يخطر ببالي أنني قد أغادر الرقة يوماً، كنت على استعداد لتحمل كل الضغوطات المعيشية فيها والتنفس من هوائها والشرب من مائها حتى حين منعني تنظيم داعش من الذهاب واستلام راتبي، أخذت بعضاً من ذهب زوجتي وبناتي وبعته لاستئجار محل صغير وتحويله إلى بقالية علّها تساعدنا في تأمين حاجياتنا الأساسية، ربما لو كان لي ابن أو صهر لساعدوني قليلاً على تحمل هذا العبء”.
يقاطع حديثه بنفسه ويقول “أبن أخوي متأكد مابي دواعش هون”، أطمئنه بأن داعش لم يصل إلى هنا بعد ولا يوجد من يحبه هنا أيضاً فيتابع: “المضايقات من قبل التنظيم تزداد يومياً وأنا أصبّر نفسي بأنهم سيزولون مع الوقت الأمر يحتاج إلى صبر، فكما تخلصنا من نظام الأسد سنتخلص من داعش، إلى أن بدأ الطيران الروسي بشن الغارات على المدينة، هنا ثقل الحمل كثيراً فأصبحت عاجزاً عن توفير الحماية لبناتي، استطعت أن أحميهن من داعش بمنعهن من الخروج خوفاً من عقوبة قد تطالهن أو من وقوع نظر نظر عناصر التنظيم على إحداهن فيجبرونني على تزويجهم بها، لكنني لا أملك القدرة على مواجهة الطيران الروسي، تملكتني هذه القناعة بعدما قصف حينا وأصيب منزل أحد الجيران فقد رأيت كيف تحولوا إلى أشلاء ولم أرد رؤية عائلتي بهذا المشهد”.
أعداد الوافدين كانت كبيرة، قلة منهم من الأماكن الخاضعة لسيطرة التنظيم إلا أن معظمهم فرّوا من الريف الحلبي هرباً من شراسة القصف هناك. كان هذا الرجل أكثرهم حماسة واستعجالاً للخروج من سوريا فهو يكرر استفساره عن إمكانية الدخول إلى تركيا أكثر من عشر مرات في الساعة، متناسياً كل الإجابات التي يحصل عليه حول صعوبة الأمر وخطورته فيرد بقوله: “خرجنا من الموت منذ قليل فلا تحاولوا إخافتي بذلك”.
استفسرت منه عن كيفية خروجه من الموت فقال “كان التنظيم يمنع خروج الجميع من الرقة وإذا أراد أحد ذلك فعليه أن يحضر كفيلاً يضمن عودته خلال مدة محددة، ولم يقبل أحد أن يضع نفسه في هذا الموقف فالجميع يعلم أن من يخرج لن يعود. بدأت البحث في الموضوع إلى أن توصلت لعناصر من التنظيم يتولون هذه المهمة يستطيعون إخراجك من أماكن سيطرتهم إلى أي منطقة تريدها مقابل 500 دولار للشخص الواحد، ويكون الدفع بالدولار حصراً ويمنع أن تحمل معك أي أمتعة سوى حقيبة صغيرة تضع بها حاجياتك الأساسية، شعرت بأنني أحد المشاركين في البورصة فكل يوم أتابع سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية عله يصل إلى أدنى مستوياته كي أستطيع تأمين ألفي دولار لخروجنا”.
· ابن اخوي مشي خلينا نشوف البنات والله بالي مشغول عليهم
– ماشي عمو بس ماخبرتني شلون يعني طلعتم من الموت من شوي؟
– امشي وبس نتطمن عليهم أكملك
عند وصولنا كان كل شيء على ما يرام، النساء يجلسن في غرفة كبيرة ويتجمعن حول مدفأة حطب، تنقسمن إلى مجموعات كل منها لها قائدة تستلم الحديث وتخبر بقيتهن بأحاديث أكاد أجزم بأن جميعها تدور حول القصف والهروب منه.
خرجنا من المنزل وجلسنا على أعتابه ليكمل أبو أمجد قصته “بعت جميع المواد الموجودة في المحل واستعنت بالقسم المتبقي من الذهب لدى عائلتي وبعت بعض أغراض المنزل ليصبح لدي 3200 دولار كفيلة بإيصالي إلى تركيا أو أقلها إلى الحدود، تحدثت مع العناصر التي كان من المفروض أن يتولوا عملية إخراجنا واتفقنا على موعد محدد لإيصالي وفي نهاية الطريق أعطيهم المبلغ المتفق عليه، وقد حاولت تخفيض المبلغ فأجابوني “ما توفي معانا” ليبدأ بالضحك بعدها وأضحك معه دون فهمي للسبب.
يرسم بأصابعه شيئاً يشبه خريطة على التراب ويواصل حديثه، “في اليوم المحدد أتت سيارة من نوع (فان) عند التاسعة ليلاً إلى منزلي، صعدنا إليها وكان بها ثلاثة عناصر، اثنان يجلسان أماماً وآخر يجلس معنا في الخلف وينظر إلى زوجتي وبناتي ويعطيهن الأوامر بتعديل النقاب أو الكفوف أو حتى جلساتهن كي لا يظهر شيء من مفاتنهن لأن هذا حرام وكأن الألفي دولار من أركان الإيمان”.
يرسم خطاً متعرجاً ويتابع “سرنا ساعات طويلة وكانوا يقفون على الحواجز التابعة للتنظيم يلقون التحية ويتابعون المسير حتى وصلنا إلى منطقة خالية قالوا إنّها آخر منطقة تابعة للتنظيم وعلينا متابعة الطريق سيراً على الأقدام، فأخبرونا أن المسافة ليست بعيدة ولا تبلغ أكثر من كيلومترين. نزلنا من السيارة وأعطيتهم المبلغ بعدما عزلته عن بقية النقود، بدأنا المسير وعادت السيارة من حيث أتت، كانت المنطقة مظلمة لكننا نرى الأضواء من بعيد، وعلى غفلة توجه ضوء من سيارة خلفنا وبدأ إطلاق رصاص لست متأكداً إن كان متوجهاً إلينا بشكل مباشر لكنني أقسم لك أني رأيت الطلقات تصطدم بالأرض، كان الموت يحيط بنا من كل الجوانب وكأننا نهرب من موت إلى موت.”
عاد أبو امجد وضحك ضحكته الغريبة والتفت إليّ “عمك يا ابن أخوي رجع شباب بهذاك الوقت وصار مثل غادة شعاع وصرت أركض حتى خالتك يلي من يوم يومها تشكي من رجلها صارت أسرع مني، كلنا قلبنا غزلان من غلاة الروح ضلينا نركض مع انو وقف صوت الرصاص بس ما وقفنا إلا نشف دمنا وحسينا حالنا صرنا بمكان للجيش الحر”.
يسحب سيجارة أخرى ويعتذر مني على إنهاء علبة السجائر مؤكداً أنه سيشتري لي أخرى عوضاً عنها ثم يقول: “كان آذان الفجر يُسمع في المدينة التي كنت بها فتوجهت إلى المسجد وسألت عن كيفية وصولنا إلى الحدود فدلوني على موقف لسيارات تتولى هذه المهمة وعندما وصلنا صعدنا إلى الباص وانتظرنا امتلاءه ليسير بنا إلى هنا”.
“ابن أخوي أريد أسألك سؤال، الألف دولار اللي ضلت بجيبي تكفيني أوصل على تركيا أنا وعيلتي؟”، تجاهلت سؤاله وطلبت منه أن نعود إلى “الكافتيريا” ونشرب الشاي، خجلاً من أن أخبره عن النفوس المريضة التي تستغل الوضع المأساوي لسحب آخر قطرة دم من القادمين.