خاص – الرقة تذبح بصمت
ما إن أعلن الكريملين الروسي عن عزمه التدخل في الصراع الدائر في سورية لإنقاذ نظام الأسد تحت ذريعة محاربة الإرهاب، حتى باشرت الطائرات الروسية تنفيذ طلعاتها الجوية في سماء مدينة الرقة وريفها، ولكن التصريحات الروسية المتكررة باستهداف تنظيم داعش لم تكن متطابقة مع سير الغارات التي ينفذها الطيران الروسي على الأرض، حيث وثقت وكالات الأنباء المحلية والعالمية أن معظم الغارات كانت تستهدف المدنيين بصورة رئيسية، وذلك من خلال قصف الأحياء السكنية والأسواق الشعبية والمرافق العامة والبنية التحتية التي تخدم المدنيين بصورة مباشرة.
أي أن هذه الغارات لم تكن تستهدف مقرات التنظيم ونقاطه الأمنية والعسكرية الواضحة والمعروفة لدى الجميع داخل المدينة إلا نادراً، كما أنها لم تستهدف من جهة أخرى أرتال التنظيم المدججة التي لطالما كانت تجوب الطرقات العامة داخل المدن وخارجها في وضح النهار، أما الغارات التي كانت تستهدف مقار التنظيم فإنها لم تؤثر بشكل كبير في بنيته البشرية العسكرية، حيث كانت خسائر التنظيم شبه معدومة لأن غالبية الغارات كانت تستهدف مقرات سابقة وخالية تماماً من عناصره وآلياته نتيجة الاستهداف المتكرر لها من قبل طيران التحالف الدولي.
تتميز الغارات الروسية عن غارات طيران النظام بعدة أمور:
– حجم الدمار الكبير الذي تخلفه نتيجة القوة التدميرية الهائلة لصواريخها، والتي تسببت بوقوع العشرات من المجازر في صفوف المدنيين.
– التحليق والقصف ليلاً ونهاراً، الأمر الذي كان طيران النظام السوري يعجز عنه.
– استهداف جميع أحياء المدينة، حيث تم قصف أحياء لم تتعرض سابقاً لأية غارات كونها أحياء مدنية بشكل صرف.
– التدمير الممنهج للبنية التحتية، واستهداف مواقع لم يتجرأ النظام السوري على قصفها مثل الجسور ومحطات المياه وصوامع ومخازن الحبوب.
وما يميز الغارات التي تشنها الطائرات الروسية أمر آخر، وهو استهداف محطات تكرير النفط التي تسمى محلياً ( حراقات النفط )، وهي عبارة عن مشاريع صغيرة جداً لتكرير النفط الخام بطرق بدائية، وهي مملوكة في غالبيتها من قبل السكان المحليين وليس لها أي ارتباط مباشر مع تنظيم داعش. كما استهدفت الغارات من جهة أخرى الشاحنات التي تنقل النفط بين مدينتي دير الزور والرقة والتي يمتلكها مواطنون مدنيون أيضاً.
ويبدو أن الروس يسعون لإقناع العالم بأنهم يهدفون إلى تجفيف منابع تمويل التنظيم عبر هذه الغارات التي تستهدف الدورة النفطية المحدودة والبدائية، والتي تعود بالفائدة بصورة رئيسية على المدنيين البسطاء الذين يمتلكونها، ولكن الروس وهم أكثر الناس معرفة بالعلاقات النفطية والاقتصادية الوطيدة بين النظام والتنظيم، غضوا الطرف عن استهداف العديد من المرافق والمنشآت التي طالما تجاهلها طيران النظام سابقاً، ومنها:
1- الشاحنات التي تنقل النفط من مواقع استخراجه داخل مناطق سيطرة التنظيم إلى المدن التي يسيطر عليها النظام.
2- الآبار التي تقوم بإنتاج النفط والتي لا تزال تعمل حتى الآن تحت سيطرة التنظيم وإشرافه.
3- آبار الغاز والأنابيب التي تنقله من مناطق التنظيم إلى مناطق سيطرة النظام، والذي يعتمد عليه النظام بصورة مباشرة في توليد الطاقة.
4- الشاحنات التي تنقل القمح وسائر الحبوب المباعة من قبل التنظيم إلى وسطاء يعملون لمصلحة النظام ويوصلونها إلى مناطقه.
وعلى صعيد آخر، فقد جرب الروس في الرقة أنواعاً مختلفة من الأسلحة ومنها الصواريخ الاستراتيجية التي اطلقوها من الغواصات الرابضة في بحر قزوين والتي سقطت في مناطق جرداء وخالية من السكان بريف الرقة, كما قاموا بتجريب أنواع جديدة من الصواريخ الفراغية وكانت الأحياء السكنية هي المسرح لمثل هذه التجارب، ونذكر من هذه التجارب على سبيل المثال استهداف حي 23 شباط وحي سيف الدولة، حيث تم تدمير أبنية طابقية بشكل كامل وفي بعض الحالات تدمير شوارع بأكملها، وهو الأمر الذي تتم مشاهدته للمرة الأولى في المدينة.
ويدرك المدنيون داخل مدينة الرقة أن الهدف الأول والأخير لهذه الغارات هو إفراغ المدينة من السكان المحليين بشكل كامل، وذلك عن طريق استهداف الأحياء السكنية لإجبار الأهالي على النزوح إلى مناطق أخرى أكثر أمناً، فالجميع يعلم أن سلاح الجو الروسي وطيرانه متطور ومتقدم بشكل كبير عن نظيره السوري، وأن نسبة الخطأ هي أقل بكثير من تلك التي كان يرتكبها طيران النظام، ولكن أن يتم استهداف حي سكني لا يتواجد في محيطه أي مقر لتنظيم داعش على قطر 400 متر فهو دليل واضح على أن الهدف هو المدنيون وليس غيرهم، فالمقصود إذن كما أسلفنا هو إفراغ المدينة من ساكنيها لتكون الرقة مسرحاً خالياً لجميع أنواع الطيران بدءاً من طيران التحالف الدولي وهو الصديق المفترض وانتهاءاً بطيران الأعداء الأكثر شراسة الروس وتابعهم نظام الأسد.
ويمكننا في هذا السياق فهم تصريحات وزارة الدفاع الأمريكية بإن العملية العسكرية المرتقبة على الرقة سوف تكون معقدة وصعبة للغاية، وذلك في إشارة منها على ما يبدو إلى أن المدينة ما تزال مكتظة بالسكان بشكل كبير إلى الدرجة التي تعيق انطلاقة عملياتها العسكرية، وبما أن التنظيم قد أخلى مقراته وأعاد انتشاره في الأحياء السكنية داخل المدينة ليزيد الوضع تعقيداً، فلا بأس في أن يتولى الروس “المهمة القذرة” وهم أهلها، في قصف المدينة دون رحمة وإخلائها من ساكنيها.
ويدرك التحالف الدولي والولايات المتحدة من ورائه والتي تحلق طائرات استطلاعها على مدار 24 ساعة في أجواء المدينة، أن غارات الروس تنصب على الأحياء المدنية بشكل مباشر وأن تأثر التنظيم بها شبه معدوم، ولكنهم لا يبالون طالما أن هدفهم الرئيس يتحقق وهو إخلاء الرقة من أكبر عدد ممكن من سكانها المدنيين، لكي يتسنى لطيرانهم لاحقاً تدمير الرقة بالكامل كما فعل سابقاً بمدينة عين العرب شمال سورية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.