بلباسه الأفغاني ولحيته الطويلة الرثة يتجول مسؤول محلي في تنظيم الدولة الإسلامية داعش بسيارة وضع عليها شعار “الحسبة”، يتوقف عند متجر ملابس نسائية قرب ساحة ساعة الرقة رفقة بعض من عناصر الدورية، في إطار جولته اليومية داخل المدينة.
يأمر مسؤول المجموعة كما يظهر شريط فيديو بثه حساب مؤيد للتنظيم على موقع يوتيوب الاجتماعي، وقد وضع بندقيته على كتفه وعصا في يده، صاحب المتجر بلهجة مغاربية، بأن ينقل بعض الملابس “غير المحتشمة” من الواجهة، إلى داخل المتجر “حفاظا على العفة”.
يتعايش أبناء الرقة السورية شمال وسط سورية مع هذه المجموعة بشكل يومي منذ مطلع شهر كانون الثاني/ يناير كما يؤكد أبو محمود العكيرشي، حيث دخل التنظيم المدينة ليعلن فيها الخلافة بوقت لاحق، واعتبر الرقة بمثابة عاصمة له منذ ذلك الحين.
يشرح أبو محمود، وهو اسم مستعار فضل أن يكنى به خشية العقاب، بأن “الحسبة” جهاز تابع لتنظيم الدولة الإسلامية داعش، مهمته إدارة شؤون الحياة اليومية للأهالي، بما فيها تنظيم السير وجباية الضرائب وإقامة الحدود، وهو ما يقوله فيديو توضيحي للحسبة، مختصرا مهمتها بـ”الحفاظ على أمن المجتمع”.
يضيف أبو محمود في حديثه لموقع قناة “الحرة”، بنبرة تخيم عليها السخرية، أن سيارات الحسبة التي تجوب الطرقات طيلة النهار وعناصرها الذين يضعون بطاقات تحت هذا الاسم، تحاول تطبيق “الشريعة” وفق منظور داعش على الأهالي الذين لم يألفوا هذا التشدد.
فخلال فترة الصلاة مثلا يحرص عناصر “الحسبة” على الإغلاق الكامل للأسواق، وفي حال عدم الاستجابة للقرار، فإن صاحب المتجر يدفع غرامة تتراوح بين 5000 ليرة سورية (حوالي 30 دولارا أميركيا) ونحو 25000 ألف (حوالي 150 دولارا أميركيا)، حسب تعزير قائد المجموعة، يضيف أبو محمد.
أما في المرة الثانية، فإنه إضافة إلى الغرامة، يغلق المتجر ثلاثة أيام، وفي المرة الثالثة يتم مصادرة المتجر وجلد صاحبه.
أهم ما يميز الرقة منذ سيطرة التنظيم عليها يشدد أبو محمود العكيرشي نسبة إلى قريته العكيرشة التي ينحدر منها، هو انعدام الحرية “على الإطلاق” إذ يبرر مسؤولو التنظيم للأهالي هذا الأسلوب، بأنهم في حالة حرب، ويعدون بتغيير نهجهم بعد “انتصارهم”، مختصرا كل ذلك بالقول “إنهم يحكموننا بالخوف”.
لكنه يشيد بإيجابية إلى انخفاض معدل الجرائم وانتشار الأمن في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم بسبب سياستهم المتشددة في قطع الأيدي والمحاسبة العلنية.
مشهد مألوف للإعدام
تبدو الأسواق شبه طبيعية والناس يسيّرون أمورهم بشكل اعتيادي بنظرة عامة يومية على المدينة، كما يؤكده الناشط الإعلامي سعد الصياح، لكنه يبدي انزعاجا شديدا من فرض عناصر التنظيم معتقداتهم على الأهالي دون حتى إقناعهم بأصولها الشرعية.
لكن أكثر ما يقلق سعد الذي ينشط في مكتب الرقة الإعلامي، هو تنفيذ أحكام الإعدام في الساحات العامة، على مرأى من الناس، ولا سيما الأطفال الذين أصبح مشهد الذبح وإطلاق الرصاص مألوفا لديهم.
يضيف سعد لموقع قناة “الحرة”، أن الأيام التي تلت سيطرة التنظيم المتشدد على مطار الطبقة والمعسكرات التابعة للحكومة السورية خلال الشهرين الماضيين، أعقبها إعدامات جماعية وعلقت الرؤوس في الشوارع، “بمشهد مقزز، كان من بينه أن شاهدت أطفالا يلعبون برؤوس مقطعة علقت على سور إحدى الحدائق”.
أما الموظفين المحليين فإنهم يتقاضون مبلغ 40 ألف ليرة سورية (نحو 300 دولارا أميركيا)، كما تستفيد زوجاتهم من مبلغ 3000 ليرة (نحو 20 دولارا) كما يقول سعد.
ومن المشاهد التي لم يألفها أهالي الرقة هو التدخل في الزي النسائي، إذ كانت النسوة في المدينة وأريافها يشاركن أزواجهن في الزراعة وقيادة الجرارات الزراعية، أما الآن فإنهن أصبحن يتشحن بالسواد، علاوة على السواد الذي أضحى يخيم على المدينة بعد منعهن من إظهار وجوههن، وإلإ فإن رجالهن سيتعرضون للجلد ويغرمون بدفع 25 ألف ليرة (حوالي 150 دولارا أميركيا)، يقول أبو محمود: “تهددني زوجتي ممازحة بأنها ستخرج للشارع كاشفة وجهها في حال لم تلبى طلباتها”.
أما من أين يتلقى الأهالي الأوامر، فإنها توزع في منشورات في الشوارع وفي المساجد، إضافة إلى أن سائقي سيارات الأجرة العمومية، ووسائط النقل الداخلي وفي البيوت، يستقبلون ترددات إذاعة “البيان” على موجة FM الخاصة بالتنظيم، والتي تبث أناشيد دينية وبرامج دعوية، وخطب تحريضية تحثّ “على الجهاد ومحاربة البدع واتباع الدين الإسلامي الحنيف”، كما تقول مواقع تابعة للتنظيم.
تجنيد الأطفال
إضافة إلى الإذاعة، يدير “المكتب الدعوي” وهو جهاز متخصص في إدارة مكاتب محلية يدأب على “حث” أهالي الرقة على “الجهاد” وإقناع النساء بضرورة ارتداء الحجاب.
وتجوب سيارات المكتب الدعوي شوارع الرقة، داعية الناس عبر مكبرات الصوت إلى الصلاة ودفع الزكاة واتباع الدين، كما ينظم المكتب “خيم دعوية” في الأماكن العامة تشرح فكر التنظيم.
وتوزع منشورات وتنظم حفلات للأطفال تقوم خلالها بتجنيدهم للمشاركة في المعسكرات التدريبية.
هذه السياسة أدت كما يؤكد الناشط سعد إلى انجذاب الأطفال وتأثرهم بهذا التنظيم، إذ أصبحت ألعابهم مقترنة بـ”قتل الكفار” و”الجهاد” والعمليات الانتحارية.
وهو ما تظهره تغريدة على موقع تويتر لأطفال يمثلون مشهد إعدام شبيه بتلك التي ينفذها عناصر التنظيم في شوارع الرقة.
ويضيف سعد، “المكتب الدعوي يجمع الأطفال فينظم لهم حفلات ومسابقات ومهرجانات ويقدم هدايا، تمهيدا لتجنيدهم” لافتا إلى أن ثمة عائلات تستفيد من هذه الحالة وتتحالف معهم كما تتحالف مع كل سلطة قائمة.
وإلى جانب الحسبة والمكتب الدعوي، فإن للتنظيم أجهزة أخرى ذات تواصل مباشر مع الشارع، بما فيها الشرطة الإسلامية وديوان المظالم وسفارة حلب لتنظيم الأمور العسكرية والمدنية مع مدينة حلب التي يسيطر التنظيم على أجزاء منها، فضلا عن “مكتب هيئة خدمات المسلمين”، وهو بديل عن المجالس المحلية التي أنشأتها المعارضة في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
حملة مضادة
في مقابل هذه السياسة المقترنة بحملة إعلانية تستخدم فيها اللوحات العامة التي كانت تتبع للمؤسسة العربية للإعلان وشركات إعلان خاصة في السابق، أسس نشطاء سوريون حملة أطلق عليها “الرقة تذبح بصمت”، لرصد انتهاكات داعش في ظل التضييق الأمني على المدينة، مشيرين إلى أنها كانت أول من نبه إلى خطورة هذا التنظيم وكشف “فداحة جرائمه بحق المدنيين”.
يشرح الناشط أبو محمد وهو أحد مؤسسي الحملة، بأن “الرقة تذبح بصمت” أطلقت في 16 نيسان/ أبريل الماضي من قبل 18 ناشطا مدنيا وإعلاميا في مختلف الشبكات الإخبارية المحلية ومنظمات المجتمع المدني لتسليط الضوء على الحياة اليومية في المدينة التي تعيش إطباقا تاما على الحريات، وتوثيق الانتهاكات التي يرتكبها عناصر التنظيم، مشيرا إلى انهم استمدوا خبرتهم من رصدهم للانتهاكات التي كان يمارسها النظام السوري خلال سيطرته على المدينة.
وفقد الناشط المعتز بالله إبراهيم حياته عندما أعدمه التنظيم جراء مشاركته في الحملة، حسبما يؤكد أبو محمد، مشددا على أن جهات في داعش تراقب مواقع التواصل الاجتماعي، وقد اعتقلت 76 شخصا بعد يوم من إطلاق الحملة بتهمة المشاركة فيها.
اختفاء المقاتلين بعد الضربات الأميركية
في اليوم الذي تلى خطاب الرئيس باراك أوباما معلنا موافقته شن غارات جوية على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سورية، “تماهى” عناصر التنظيم مع المدنيين وأخلوا مواقعهم وفق وصف أبو محمد، مضيفا أنهم ضيقوا أكثر على الحريات ومنعوا الناس من التصوير بالهواتف النقالة في الشوارع، تخوفا من تصوير مقراتهم.
ولم يعد يظهر عناصر التنظيم في الشوارع بعد أن شرعت قوات التحالف بقصف مقراتهم خلال ساعات النهار، وهو ما يدفع الناشط الإعلامي في شبكة “سورية مباشر” الإخبارية المحلية أيهم صبحي لإبداء تخوفه من سقوط مدنيين جراء الغارات التي قصفت أحد مباني الحسبة الذي يوجد بداخله سجناء “لا يعلم مصيرهم بعد الضربة”.
فالتكتم الإعلامي من قبل التنظيم عقب الضربات وتطويق أماكن القصف وعدم السماح بالتصوير”، يجعل من الصعب إحصاء الضحايا من المدنيين، لاسيما وأن قادة التنظيم انتقلوا إلى أكثر المناطق حيوية في مدينة الرقة بعد إخلاء مقراتهم الرئيسية، كما يؤكد صبحي لموقع “قناة الحرة”.
المصدر : الحرة
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.