خاص – الرقة تذبح بصمت
لبت محافظة الرقة نداء الثورة السورية في 15 مارس/أذار لعام 2011 وكانت من أوائل المحافظات الملتحقة بركب الثورة لتعلن تضامنها مع درعا وتصدح حناجر أبنائها بهتافات الحرية لتخرج أول مظاهرة في مدينة الرقة بتاريخ 21 أذار من نفس العام في جامع الفردوس الواقع وسط المدينة , لتليها بيومين مظاهرة شارع الوادي وتسجل أول حالة اعتقال بحق “محمد الشلاش” وتنطلق على اثرها شرارة المظاهرات لتشمل جميع أنحاء المدينة بكثافة عددية يوماً بعد يوم بالرغم من التشديد الأمني المحدق بالمدينة ولكنه لم يقف بوجه تلك الشرارة التي تحولت لهيباً .
وحاولت القوات الأمنية التصدي لها باعتقال المتظاهرين وقمع الاعتصامات السلمية باستخدام الغازات المسيلة للدموع والعصي الكهربائية وإطلاق الرصاص لتفريق المظاهرات , الا ان المدينة استمرت بالمظاهرات الشبه يومية إضافة لمشاركتها بمظاهرات يوم الجمعة المميزة .
ففي 15 من كانون الأول/ديسمبر دعا عدد من الناشطين لمظاهرات في جميع أنحاء مدينة الرقة تحت مسمى ” بركان الرقة ” فاستجاب لها الأهالي وتعم الهتافات جميع أرجاء المدينة بالرغم من التواجد الأمني الكثيف الذي لم يقف حاجزاً في وجه المطالبين بالحرية , لتتصدر محافظة الرقة في ذلك اليوم نشرات الأخبار اليومية فكانت خير مثال على الاحتجاج السلمي في الثورة السورية .
ومع دخول عام 2012 شهدت المدينة وريفها إقبالاً شديداَ على الحراك السلمي من جميع الأطياف , ورغم جميع الانتهاكات التي كان يمارسها النظام حافظت المظاهرات على سلميتها , حيث قام المراقبون العرب في الشهر الاول من العام الجديد بزيارة محافظة الرقة لينتفض أبنائها ليوصلوا رسالتهم بأنهم ضد الظلم والقمع رغم التنكيل الذي كان يتربص بهم من قوات الامن ولتشهد بعدها المدينة سلسلة من المظاهرات كان من أبرز الأحداث في شهر شباط/فبراير عند دخول الجيش لأول مرة إلى المدينة لعدم قدرة الأمن على قمع المتظاهرين , فكان الرصاص الحل الوحيد ولتشهد المدينة بعدها تشديداً أمنياً كثيفاً بقيادة الجيش مما ضيق الخناق على المتظاهرين في مدينة الرقة لينتقل التركيز بشكل كبير إلى الحراك الجامعي فقامت عدد من التنسيقيات والناشطاء بدعوة لمظاهرة في جمعة “التدخل العسكري الفوري ” في محاولةً لفك الطوق الأمني على المتظاهرين فكان أهالي المدينة على موعد جديد لانتفاضة أخرى ليكون رصاص الأمن والجيش حاضراً لتفريق المظاهرات وليستشهد حينها “علي البابنسي” معلناً ثورة جديدة , فسجلت أطول مظاهرة في تاريخ الثورة لاستمرارها أكثر من عشرين ساعة حيث شهد صباح ال16 من اذار أضخم المظاهرات ووصل عدد المتظاهرين لأكثر من 300 ألف متظاهر في تشييع “علي البابنسي” وليستمر مد التظاهر حينها حاول المتظاهرون الوصول إلى ساحة المحافظة لإسقاط تمثال حافظ الأسد , فكان رد الجيش الذي سرعان ما هلع إلى شوارع المدينة بعد استنفار عناصر الفرقة 17 ويكون الرصاص مصير كل من يحاول الاقتراب من التمثال , فسقط الكثير من الشهداء وليستمر التشييع والتظاهر لمدة 3 أيام أخرى انتفضت فيها الرقة بشكل كامل ليحكم الجيش قبضته على المدينة بعدها فارضاً حظراً للتجوال ، ليعود الحراك المدني ضد النظام رغم كل الحصار المفروض على المدينة بأيام ولكن مع الدخول السلاح إلى الثورة السورية ونشوء عدة فصائل تابعة لجيش السوري الحر في اغلب المحافظات السورية .
ورغم ما شاهدته محافظة الرقة من انتهاكات وقمع في حق المتظاهرين وخصوصاً الأحداث الاخيرة في المحافظة بشهر اذار وسقوط عدد كبير من الشهداء ، فكل تلك العوامل كانت نواة لنشوء عدد من كتائب الجيش الحر لدفاع عن المتظاهرين السلميين في بداية شهر نيسان / ابريل وليتشكل في ال16 من الشهر ذاته المجلس العسكري في محافظة الرقة الذي دعا جميع الكتائب العاملة في محافظة الرقة للتوحد وأعلن تبعيته للجيش السوري الحر .
وكان بداية تشكل الحر في مدينة الرقة نقطة تحول هامة في مصير الثورة في المحافظة لتعم المظاهرات جميع أنحاء المدينة وريفها مرددةً قسم الثورة وليزداد عدد المنشقين عن قوات النظام يومياً ، ولم يتوانى الجيش الحر ليعلن في الشهر التاسع سيطرته على مدينة تل أبيض وعلى معبر تل أبيض الحدودي مع تركيا شمال الرقة وعدد كبير من النواحي في الريف الشمالي لمدينة الرقة ، في ذلك الحين كانت مدينة الرقة تستقبل أكثر من مليون ونصف نازح من مختلف المحافظات السورية حتى بات اسمها “فندق الثورة” ، فلم يرضى أبنائها بأن تبنى الخيم إلا لأيام فسرعان ما قاموا بتجهيز عدد من المراكز والمدارس لاستقبال الضيوف الجدد ، وفي الوقت ذاته لم يتوقف النظام عن انتهاكاته في قصف المناطق المحررة مرتكباً عدد كبيراً من المجازر ، ولم يتوقف الأحرار عن حراكهم السلمي مطلقين عدداً كبير من الدعوات للتظاهر حققت أرقام كبيراً في أعداد المتظاهرين .
ولم يمر أقل من شهرين لينتفض الريف الشرقي وليعلن الجيش السوري الحر تحرير ناحية الدبسي وليعلن في شهر نوفمبر سيطرته على مدينة الكرامة , ومع دخول الثورة لعام 2013 كانت مدينة معدان على موعد مع تحرير منتظر حيث تمكنت الكتائب العاملة في المنطقة من السيطرة على عدة نواحي في الريف الشرقي ، وكان للريف الغربي لمدينة الرقة نصيب من تحرير لتعلن مدينة الطبقة مدينة محررة في الشهر الثاني من العام الجديد بالإضافة لتحرير عدد كبير من النواحي .
اشتعل ريف الرقة ناراً ليقضي على تجمعات قوات النظام وليتابع زحفه محرراً العديد من القرى يومياً ، ويطلق بعدها ناشطي الحراك الثوري في 22 من فبراير/شباط لعام 2012 جمعة الرقة الأبية على طريق الحرية ، ولتعج شوارع المدينة بالمظاهرات المطالبة بدخول الجيش الحر إلى المدينة بعد المضايقات التي كانوا يتعرضون لها من عناصر اللجان الشعبية وقوات الأمن السوري ، فلم يتأخر رد الجيش الحر ويعلن في بداية شهر مارس/أذار الرقة عاصمةً للتحرير ولتحتفل بالذكرى السنوية الثالثة للثورة وهي مرتدية رداء الحرية ، فتلونت المدينة بأعلام الحرية وتزينت الشوارع باللافتات معلنةً الرقة أول محافظة محررة باستثناء ثلاث نقطة عسكرية .
وفي تلك الأثناء لم يتأخر أبناء المدينة في تشكل المجالس المحلية لإدارة شؤون المدينة وريفها ومنظمات العمل المدني التي فاق عددها السبعين منظمة وتجمع ومركز واتحاد لتنظيم المدينة وليُظهروا أرقى صور التعامل في حالات الحرب كما قاموا بمنع بعض المخربين المنخرطين في صفوف الثورة من تعكير صفوة التحرير , فكانت مدينة الرقة خير مثال يحتذى به من تنظيم وعمل ونتيجة , مستمرين بالمظاهرات السليمة كل يوم مشاركين جميع تشكيلات الثورة أفراحهم واحزانهم , متضامنين مع الجميع رغم الظروف الصعبة التي مرو بها والتي كانت اهمها عدم مساعدة الائتلاف الوطني .
وحافظت مدينة الرقة على ترابط مكوناتها بعد التحرير , وأعطوا الأمن للمدنيين من غير الطوائف والقوميات , بل اعتبروهم جزء من الحراك الثوري , ومنحوهم حرية كانت مسلوبة منهم حتى على أيام النظام الذي ادعى حماية الأقليات .
زاد توافد أبناء المحافظات السورية إلى مدينة الرقة بعد تحريرها لما شهدته المدينة من حسن سلوك وتعامل وحماية وصدق عمل من قبل ابنائها ، ذلك الأمر الذي عكر صفو النظام وداعش ، فلم يتوقف النظام عن قصفه لمدينة الرقة مرتبكاً العديد من المجازر في حقوق المدنيين العزل وتجمعات الجيش الحر مبتعداً كل الابتعاد عن مقرات تنظيم داعش ، أما تنظيم داعش الذي أُعلن عن نشأتهِ بعد تحرير مدينة الرقة بما يقارب الشهر في 9 من ابريل/نيسان لعام 2013 بعد حل جبهة النصرة والتي بايع القسم الأكبر من عناصرها البغدادي وبقي القليل من ابناء مدينة الرقة مع النصرة، هنا اُنشأت النواة الأساسية لتنظيم داعش وبدأ التنظيم فعليا بالتفكير بالسيطرة على المدينة بشكل كامل ومع بداية شهر تموز من عام 2013 بدأ التنظيم باختطاف واغتيال عدد من النشطاء والاشخاص المؤثرين في الشارع الرقاوي ، لتغطية جرائم التنظيم هناك وعدم نشرها ، أثار هذا مخاوف النشطاء بشكل كبير فبدأ مسلسل هجرة نشطاء المدينة الى الدول المجاورة مثل تركيا، ثم بدأ التنظيم بتفكيك الكتائب المقاتلة في المدينة وبتاريخ 1/08/2013 بدأت معركة مع لواء أحفاد الرسول استمرت 13 يوم, وبتاريخ 13/08/2013 استطاع التنظيم إدخال سيارة مفخخة الى مقر لواء احفاد الرسول بمدينة الرقة وقام بتفجيرها، أدت هذه العملية الى مقتل اكثر من 30 عنصر من اللواء وخروج اللواء من المدينة بشكل كامل، أثار هذا رعب الكتائب المتبقية في المدينة، وأحست بأنها ستكون التالية فانقسمت الكتائب الى ثلاث اقسام أيضا الأول بايع التنظيم وهو القسم الأكبر ، والثاني بايع حركة أحرار الشام ، والثالث وهو الأصغر بايع جبهة النصرة.
في تلك الأثناء وبعد أن أصبح لتنظيم داعش قوى ضخمة وامتلاكه لسلاح نوعي كان أغلبه قد قدم من العراق بالإضافة لتواجد عدد كبير من المقاتلين الذين لهم باع كبير في القتال منذ سنين ، بدأ التنظيم تحركاته لإجهاض الثورة وقتلها فلم يختلف عن النظام كثيراً في قمعه ، ليمتد بطشه ليشمل ناشطي الثورة وإعلاميّها ، وكثرت في هذه المرحلة رحلة هجرة الناشطين فمن حالفه الحظ تمكن من النفاذ هارباً إلى تركيا ، ومن لم يحالفه الحظ فقد اعتقل او خطف على يد التنظيم وليقوم التنظيم بإعدام بعض من تم خطفه او اعتقاله , يذكر أن أعداد كبيرة من الناشطين مازالوا معتقلين لدى التنظيم ويبقى مصيرهم مجهول حتى اللحظة ومنهم :
- اسماعيل الحامض
- عبد الاله الحسين
- رمضان صادق رمضان
- فراس الحاج صالح
- عبد الله الخليل
- عمر البيرم
- عبد المجيد العيسى
- محمد ويس مسلم
- محمد السلامة
- خليل ابراهيم حبش
- سمر صالح
- مدثر الحسن
- محمد نور مطر
- ابراهيم الغازي
- محمد عمر
- عبد الله العساف
- رشيد مصطفى
- محمد علي النويران
- عيسى الغازي
- أحمد مشو
ومع بداية عام 2014 وبعد أن أحست الكتائب الموجودة بالرقة بالخطر المحدق بها، قررت قتال التنظيم وإخراجه من المدينة وبدأت معارك شرسة استمرت 8 أيام، ثم قامت حركة أحرار الشام الإسلامية بعقد هدنة مع التنظيم بتسلم الأسلحة والمقرات مقابل الانسحاب الآمن من المدينة .
انسحب على أثر هذه الهدنة الأحرار ولكن التنظيم غدر بهم وقتل عدد من عناصرهم ، بقيت جبهة النصرة والكتائب المقاتلة من أبناء مدينة الرقة تقاوم حتى تاريخ 12/01/2014 لكن المعارك حالت دون تمكنهم من هزيمة التنظيم، وسيطرت داعش على المدينة بشكل كامل وخرجت الكتائب الى الأرياف ، وهنا أعلنت داعش عن قيام ولاية الرقة في سوريا كأول ولاية للتنظيم وهي الآن تعد عاصمة الدولة الإسلامية ، إذ كانت الأساس والمرتكز لها.
وخلال هذه الفترة اعتقلت داعش وحتى تاريخ اليوم أكثر من 1200 من أبناء المدينة بين مدنين ونشطاء وعسكرين وهجرت العديد واعتقلت العديد من أهالي المدينة إضافة لقيامها بعدد من عمليات الإعدام الميدانية بحق الكثير من النشطاء والعسكرين والمدنيين بتهم واهية ، وبعد سيطرة داعش على المدينة بشكل مطلق وازدياد الانتهاكات التي كانت تمارسها بحق الأهالي بشكل يومي ، لم يسلط الإعلام الضوء على الانتهاكات الحادثة ضد الاهالي , وفي 16 نيسان من عام 2014 أُطلقت حملة الرقة تذبح بصمت وأختارت الحملة ذلك الاسم كرمز تعبيري عما تتعرض له المدينة من انتهاكات دون أن تحظى باهتمام او لفت للأنظار من قبل العالم الصامت , وكانت الحملة من اقوى المنابر الاعلامية داخل المدينة والمحارب لتنظيم داعش التي حاول مراراً وتكراراً القبض على أعضاء الحملة وإيقاف عملها دون جدوى ، فلم يقتصر أثر داعش على البشر , فالكنائس التي أغلقتها داعش وحرمت المسيحين من ممارسة ديانتهم وجعلت منهم أقلية مغضوب عليها , بعد أن كانوا من المكون الشعبي لمحافظة الرقة , ففرضوا عليهم الجزية وضيقوا عليهم الخناق وأصبحت لفظة ” كفار ” تردد على مسامعهم من قبل عناصر التنظيم دون أن يستطيعوا التفوه بأي كلمة , فجوان من ابناء الطائفة الكثلوكية يروي معاناته لفريق الحملة : ” ربما كنت كافراً بنظرهم , لكنني على صواب بنظري أنا لست كافر , ولن اقول عن المسلمين أنهم كفار لعدم اتباعهم ديني , فقد رأيت ابناء الرقة المسلمين كيف كانوا يعاملونني دون أي فرق , أتمنى من الرب أن يغفر لي تقصيري بأداء العبادات فأنا مجبر على ذلك”.
الأطفال كان لهم النصيب الأكبر من مرض داعش , فمنذ فترة ليست ببعيدة قام اطفال بذبح طائر وصلبه مقطوع الرأس ووضعوا بجانبه ورقة كتب عليها ” مرتد قاتل الدولة الإسلامية ” في إشارة منهم على حوادث الإعدام التي تقوم داعش بفعلها امام اعين الجميع و التي باتت معتادة لديهم .
ولشدة جهل عناصر داعش أرادوا لكل من حولهم أن يصبحوا مثلهم, فقاموا بإغلاق المدارس ومنع التعليم في محافظة الرقة وحصرها في المدارس الخاصة بالتنظيم والتي يدرس بها مناهج خاصة بهم , ووضع عقوبات على كل من يثبت عليه قيامه بإعطاء الدروس سراً, فالجهل والأمية يجب أن تتفشى في المجتمع الخاضع لداعش , فهم لا يريدون أن يكون هنالك متعلم يستطيع أن يفكر علمياً , ولكنهم يريدون جيلاً كل همهم كيف يفجر نفسه.
أما نساء المدينة فواجهو ألاف المآسي والمواجع , من الزواج القسري إلى قوانين قد تشيب لها الروؤس مروراً على حالات الجلد والتعذيب التي يمرون بها على أبسط الأمور .
كتيبة الخنساء المختصة بملاحقة النساء تبتكر يومياً الأساليب الجديدة لإذلالهم والتلذذ بتعذيبهم , ولعل قصة العضاضة الحديدة المكونة من فكي كماشة مدببة يتم وضعها على صدر النساء والضغط بقوة أبشع الحالات التي تمر بها نساء المدينة, فلا تكتفي كتيبة الخنساء بتعذيبهم بدنياً بل جل همهم كيف يحطمونهم نفسياً.
قصص المعاناة وهمجية التنظيم لا تنتهي , ليستمر طمس معالم الرقة وشقها عن سوريا , ومسح اي ما يدل على المحافظة قبل أكثر من عام , أكثر من عام مَّر على سيطرة التنظيم الذي أصبح حديث العالم أجمع متخذاً الرقة عاصمةً لخلافته المزعومة ومع حلول الذكرى السنوية الخامسة للثورة السورية يأمل أهالي الرقة بعودة قريبة إلى مدينتهم والاحتفال بسوريا حرة وموحدة من داعش والنظام .